كتب أسعد عبد الرحمن: ظن الصهيونيون الأوائل أن إرهاب
الفلسطينيين العرب وإخراجهم من ديارهم سينسيهم حق العودة إليها، وأن الفلسطينيين سيتنازلون عن حقوقهم السياسية وسيذوبون في البلدان التي هجِّروا إليها، مرددين مقولة «الكبار يموتون والصغار ينسون».
لكن الفلسطينيين أظهروا تمسكهم ببلادهم وحقوقهم، خاصة بعد أن تبين للعالم أن زعماء العرب لم يأمروا الفلسطينيين بالخروج حتى يخلوا الميدان للحرب بين الجيوش العربية والعصابات الصهيونية، وأنهم إنما أكرهوا على الخروج بقوة المذابح التي قادتها المنظمات العسكرية الصهيونية.
تتجسد استراتيجية «
النكبة المستمرة»، إسرائيلياً، من خلال مصادرة أراض، قمع، تحريض عنصري، مناهج تعليم تلغي الآخر الفلسطيني العربي، أحداث وممارسات عنصرية (أفراداً وجماعات) متواكبة مع نعوت وألقاب ضد الفلسطينيين من نوع: «قنبلة موقوتة»، «طابور خامس»، «الغرباء»، «خطر استراتيجي»، «إرهابيون»، «غير مخلصين ولا موالين للدولة»، إضافة إلى «فتاوى» دينية يهودية تبيح عقابهم وتسعى لتهميشهم، مع قضاء متحيز، وقوانين عنصرية من نوع: «المواطنة مقابل الولاء»، «قانون النكبة»، «التحريض»، «لجان القبول»، «ربط حق العمل بأداء قسم الولاء».
«النكبة».. سلب الأرض وطرد المواطنين الفلسطينيين، سواء كما حدث في 1948 أو 1967، كانت عبر طرد (ترانسفير) إرهابي واضح واليوم عبر «ترانسفير ناعم» من خلال تطبيق قوانين عنصرية فاشية تدريجية ضاغطة هدفها إجبار الفلسطينيين على مغادرة بلادهم، ليس آخرها اختيار بنيامين نتنياهو هذا التوقيت (حلول الذكرى السنوية الـ66 للنكبة) لإقرار مشروع قانون «الدولة القومية للشعب اليهودي» الذي «يحصن» إسرائيل كـ«دولة لشعب واحد هو الشعب اليهودي».
66 عاماً على النكبة المستمرة الممتدة في حياة الشعب العربي الفلسطيني، وإسرائيل -الكيان المارق- ما زالت تمارس مخطط التطهير العرقي وجرائم الحرب داخل حدود فلسطين التاريخية، بل وتمادت وباتت اليوم تطالب الفلسطينيين (الضحية) بالاعتراف بهذا الكيان العدواني التوسعي العنصري، «دولة قومية للشعب اليهودي». لكن التحركات والمقاومة الشعبية في الأراضي الفلسطينية المحتلة أثبتت للعالم أن هناك صموداً فلسطينياً عبر مقاومة سلمية فلسطينية، مع كثافة المشاركة الأممية وحتى الإسرائيلية، وبالتالي الدعم المتزايد الذي يلقاه هذا النوع من النضال الذي يستقطب كل يوم أنصاراً جدداً لخيار المقاومة السلمية في أوساط الشعب الفلسطيني، وهذا ما نراه يومياً يترسخ في مناسبات وطنية عديدة كيوم الأرض أو ذكرى «النكبة1» في 1948 و«النكبة2» في 1967.
ولقد أثبت الفلسطينيون أن صمودهم يأخذ أشكالاً عديدة، سواء على الأرض، عبر المظاهرات والمسيرات التي تتصاعد في كل مناسبة خاصة مع استمرار الاستعمار (الاستيطان) وقرب اكتمال جدار الفصل العنصري. وكأني بالفلسطينيين أدركوا أن ربح المعركة يوجب تنظيم الجهد الشعبي الوطني الفلسطيني على نحو يستهدف تجسيد مقاومة جماهيرية متعاظمة تنتشر وتمتد في الأراضي المحتلة. أضف إلى ذلك، صموداً في مسألة الذاكرة التاريخية والإصرار عليها وهو ما نلحظه تماماً في المواقع الإلكترونية المتخصصة في مسائل التهجير والعودة والحركات الشبابية التي تقيم مسيرات العودة إلى القرى المدمرة.
أما إسرائيلياً، فرغم أن حكومة اليمين المتطرف ماضية في غيها وإصدار القوانين الفاشية، فإن هناك دعوات متزايدة في أوساط الإسرائيليين تدعو إلى الاعتراف بالنكبة، فمثلاً تعتبر جمعية «ذاكرات» الإسرائيلية، التي قامت بهدف تعريف النكبة إلى الجمهور اليهودي في إسرائيل، وكذلك اعتراف وتحقيق لحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى بلادهم وفقاً لقرار الأمم المتحدة رقم 194، تعتبر، إحدى أنشط الجمعيات التي ترى أن «تحمل اليهود المسؤولية عن حصتهم في النكبة الفلسطينية هو شرط حتمي لإرساء سلام عادل ومصالحة. فذاكرة النكبة الفلسطينية والاعتراف بواجب اليهود الأخلاقي في إسرائيل هما عبء أبدي يجب على اليهود حمله من أجل حياة أفضل لهم ولكل سكان البلاد».
وتؤكد أن «حق العودة يجب ألا يكون متعلقاً بطابع التسوية السياسية النهائية (دولتان، دولة واحدة، أو كونفدرالية)، بل إنه شرط سابق لتلك كلها». وقبل أيام، قامت المنظمة غير الحكومية بإطلاق تطبيق للهواتف الذكية يسمح للمستخدمين بإيجاد قرى فلسطينية في أراضي 1948. ويشمل تطبيق «آي-نكبة» خريطة تفاعلية وصوراً لمباني ومنازل تركها الفلسطينيون خلال حرب 1948.
وفي هذا الشأن، قالت «ليئات روزنبرغ»، مديرة «ذاكرات»، إن «هدفنا هو أن يعي اليهود الإسرائيليون موضوع النكبة، التي اقتلعت مئات الآلاف من الفلسطينيين من جذورهم». ومن جهته، كتب «إيلان روبنشتاين» يقول: «الحوار حول حق العودة للاجئين الفلسطينيين، معدوم في إسرائيل. لقد حاولت في موضع آخر، تقديم تفسير لذلك، على أساس الرعب الغريزي الذي يثيره الموضوع في نفوس اليهود الإسرائيليين، إذ يذكرهم بالجريمة التي اقترفوها سنة 1948، وأنهم هم، وبشكل شخصي، يقيمون مكان اللاجئين الفلسطينيين الذين جرى طردهم». ويضيف: «ربما لا داعي لأن أذكر هنا مدى الأهمية التي أراها في تعزيز الحوار حول حق العودة للاجئين الفلسطينيين، حيث أن الحل المبني على هذا الأساس هو شرط أساس للوصول إلى سلام عادل ودائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين».
بالمقابل، دعت صحيفة «هآرتس» الحكومة الإسرائيلية إلى الاعتراف بالنكبة، واستهلت افتتاحيتها برسالة الرئيس عباس في ذكرى «المحرقة»، وانتقدت بالمقابل ما وصفته ببرودة الرد الإسرائيلي ودعت تل أبيب إلى اعتماد تدريس وقائع النكبة الفلسطينية في المناهج الدراسية الإسرائيلية، بل وتنظيم زيارات مدرسية.
هذا، طبعاً دون أن ننسى «المؤرخين الجدد» من الإسرائيليين الذين قدموا قراءة علمية، لما حدث في السنوات التي رافقت قيام «دولة إسرائيل»، مناقضة للرواية الرسمية الإسرائيلية. وقد ظهر هؤلاء في عام 1988 بعد كشف إسرائيل عن أرشيفها الوطني بموجب القوانين، فتوافرت أمام جيل جديد من الباحثين الإسرائيليين إمكانية الإطلاع على وثائق رسمية قديمة خاصة حول مسألة تهجير (طرد) الفلسطينيين في عام 1948. ورغم تنامي عدد «المؤرخين الجدد» فإن الأبرز اليوم ضمن هؤلاء المعترضين الناقدين، والذي بات يغرد بعيداً عن سرب المثقفين الإسرائيليين، هو الشاعر «نتان زاخ»، الألماني الأصل، والذي فتح النار على سياسات إسرائيل، وقال إنه هرب من «دولة نازية ليجد نفسه مواطناً في دولة فاشية».
(الاتحاد الإماراتية)