كتب عبدالوهاب الأفندي: (1) سئلت في مؤتمر دولي شاركت فيه الشهر الماضي عن رأيي في مآلات الحالة
المصرية، فأجبت بأن كثيراً من الدلائل تشير إلى أن مصر تتجه نحو
الصوملة، ما لم تتخذ إجراءات عاجلة لوقف التدهور السياسي والاقتصادي. وبعد الجلسة، تحدثت إلى دبلوماسي مصري مخضرم أحسبه على قدر كبير من الحكمة والعقل، فعلق وهو يبتسم تبسم العارف بأنني أبالغ في توصيف الأمور. واعترف الدبلوماسي بأن الأمور على قدر كبير من السوء، ولكنها ما تزال تحت السيطرة. وقد سمعت من خبير مصري آخر أن الخطر ليس هو الصوملة، وإنما الدولة الفاشية التي بدأت ملامحها تتشكل تحت رعاية الأجهزة الأمنية.
(2)
قلت للدبلوماسي المحنك إنني بالطبع أتمنى لو كان على حق، ولكنني أخشى أن المرء يحتاج إلى كثير من التعامي حتى لا تصدمه حقائق الانحدار المخيف نحو القاع في مصر. فسيناء تحولت إلى ادلب أخرى، وكثير من مدن القناة مثل بورسعيد أصبحت دويلات، والجيش أصبح يتعامل مع المواطنين كميليشيا حزبية. أما الشرطة والأمن، فحدث ولا حرج. حتى القضاء أصبح يتصرف كما لو كان ميليشيا أو جهة منفلتة أبعد ما تكون عن حكم القانون. وفي خضم كل هذا هناك إعلام يفيض بالشر والكذب، ويظهر ‘الوجه القبيح’ لمصر. فإذا لم يكن هذا هو الهلاك والدمار، فكيف يكون؟
(3)
كان هذا قبل أن تصدمنا أحداث
أسوان الأخيرة، وما شهدناه من ‘صراع قبلي’ في قلب مدينة مصرية! لقد عشنا بحمد الله حتى سمعنا بأن في مصر ‘قبائل’ تتقاتل كما هو الحال في دارفور والصومال والكونغو، ورواندا. وكما هو الحال في تلك المناطق، فإن ما يسمى بصراع قبلي لا يتم لأن الدولة غابت واندثرت فحسب، بل لأنها على الأرجح تحولت بدورها إلى ‘قبيلة’ بين القبائل.
(4)
لم تكن أحداث أسوان الأخيرة مصادفة، كما لم تكن دارفور مصادفة، بل هي حلقة من تدمير منهجي للدولة المصرية، أو ما بقي منها بعد نهاية العهد المباركي. فقد شهد ذلك العهد تقاسم سلطان الدولة بين المخابرات ورجال الأعمال والمصالح الخارجية، وبالطبع الجيش كمؤسسة اقتصادية. وقد كانت ثورة يناير والتحول الديمقراطي بداية لاستعادة الدولة لشرعيتها ودورها، ولكن نفس العناصر التي مزقت الدولة من قبل قادت هجمة منهجية على كل عناصر القوة الجديدة، حتى تعيد الأمر إلى سابق عهده وأسوأ.
(5)
الاستراتيجية التي اتبعت لتدمير تجربة مصر الديمقراطية هي نفسها التي تم العمل بها لمحاولة إفشال الثورة عبر تحويل الدولة إلى مؤسسة لا تتميز بشيء عن العصابة الإجرامية. فقد تم تفريغ السجون ومراكز الشرطة من مجرمي الحق العام، وتسليطهم على الناس. وتم استخدام إعلام السلطة لنشر الرعب والتخويف من الجريمة طمعاً في أن ينفض المتظاهرون لحماية أسرهم، وهو ما حدث بالفعل لكثيرين. تم كذلك تجنيد البلطجية، راجلين وعلى ظهور البغال والحمير، لإرهاب وفض المتظاهرين، فأصبحنا أمام ‘دولة’ البلطجية بامتياز.
(6)
النهج نفسه استخدم لزعزعة التجربة الديمقراطية، ولكنه هذه المرة تجاوز إفراغ الدولة من أي محتوى أخلاقي إلى تدمير قطاعات واسعة من المجتمع أخلاقياً كذلك. هذه المرة لم يتم فقط تجنيد البلطجية لتدمير الديمقراطية، بل أيضاً تجنيد أحزاب ونقابات وبعض ‘الثوار’، وتحويلهم إلى بلطجية. تلوث الجميع بجريمة تدمير الديمقراطية تحت شعار محاربة الإخوان. وبعد تنفيذ الجريمة اختلف السراق، وأودع بعضهم السجن بجرائم مختلقة من قبل شركائهم في الإثم، لأنهم أرادوا نصيباً من السلطة التي سرقت من الشعب بدون وجه حق. ولكن كبير الحرامية لم يكن يقبل المشاركة. والتصفيات المتبادلة هي منهج معروف وسط عصابات المافيا.
(7)
يعزي كثير من المصريين أنفسهم بأوهام وأساطير عن استقرار وقوة الدولة المصرية، بل اعتاد بعض أنصار النظام السابق تسويق أسطورة أن المصريين يدمنون عبادة أي فرعون يجلس على عرش مصر. ولكن الواقع ينبئنا أنه خلال القرن الذي انصرم، كان الملك فؤاد والرئيس عبدالناصر وحدهما من أنجاهما الموت من الخلع أو القتل. فقد قتل ثلاثة رؤساء وزارة (بطرس غالي، 1910، أحمد ماهر، 1945، ومحمود النقراشي، 1948) إضافة إلى حاكم عام السودان السير لي ستاك (1924)، والرئيس أنور السادات (1981). وقد خلع الملك فاروق والرئيس حسني مبارك، ثم الرئيس محمد مرسي. وقد شهدت مصر انتفاضات وثورات عدة، منها ثورة 1919، وانتفاضات 1977 ثم 1986، إضافة إلى العديد من الانتفاضات المحلية. فالحديث عن دولة مستقرة في مصر وشعب خانع أبعد ما تكون عن الحقيقة.
(8)
إشكالية الدولة المصرية المزمنة نشأت من الفشل في إرساء أسس
الشرعية، وحالة ‘الطوارئ’ الأبدية فيها التي نتج عنها ضعف الاقتصاد. فمع كل الحديث عن مكانة مصر ونفوذها، فالثابت أن الدولة المصرية ما تزال عالة على المعونات الخارجية. وليست هناك عظمة مع تسول الدعم، خاصة إذا كان الثمن هو السيادة واستقلال القرار.
(9)
إن أي جهة تعتقد أن النهج المتبع في مصر حالياً سيؤدي إلى استقرار قريب يحتاج إلى مراجعة عاجلة لموقفه، خاصة وأن الدولة المصرية تتداوى بالتي هي الداء، وتعالج أزمتها بتقويض مؤسساتها من قضاء وجيش وإعلام وأجهزة أمنية، وتشويه سمعتها إلى حضيض الحضيض.
(10)
ليست المعارضة، وعلى رأسها الإخوان، بريئة من دم الدولة المصرية، ولكن هذا مبحث آخر سنفرد له معالجة خاصة. ولكن تحميل الإخوان وحدهم المسؤولية في الانهيار الماثل لن يجدي شيئاً، خاصة وأن الإخوان ليس بيدهم من الأمر شيء. وبالعكس، نجد الإجراءات التي اتخذت لضرب الإخوان عبر تقويض العملية الديمقراطية وتدمير الدولة المصرية لم تضر الإخوان شيئاً، بل أفادتهم بفضح إفلاس خصومهم الأخلاقي والسياسي كما نرى من بشاعة ممارساتهم. وقد كان من الممكن تحجيم الإخوان سياسياً بدون تدمير مصر، فالإخوان ليسوا قبيلة تتم إبادتها، وإنما هم فكر لن يمنع أحد أجيال قادمة من اعتناقه بهذا العبث التدميري.
(الشرق الأوسط)