كتبت كونداليزا رايس: «أريدكِ أن تلتقي بفكتور يانوكوفيتش مرشح الرئاسة في أوكرانيا»، هكذا قدم لي
بوتين رئيس أوكرانيا يانوكوفيتش عندما كنتُ معه في مكتبه بالقصر الرئاسي في
موسكو أواخر 2004 ليظهر الرجل بعد قليل قادماً من غرفة خلفية، وكان واضحاً وقتها أن بوتين يريد تمرير رسالة مفادها أن يانوكوفيتش هو رجلنا، وأن أوكرانيا فضاء للنفوذ الروسي.
ومنذ ذلك الوقت و«المشكلة الأوكرانية» آخذة في التبلور بين الغرب وروسيا، فبعد الثورة البرتقالية حاولت الولايات المتحدة وأوروبا إقناع روسيا بأن أراضي أوكرانيا المترامية الأطراف يتعين ألا تتحول إلى بيدق في رقعة الصراع بين القوى الكبرى، بل عليها أن تبقى بلداً مستقلاً قادراً على تقرير مصيره بنفسه. غير أن بوتين كان له حساب آخر، فبالنسبة له كان تقارب كييف مع الغرب بمثابة إهانة لروسيا في معادلة صفرية لا تقبل غير الولاء التام من بلدان الإمبراطورية الآفلة، وما الاجتياح الأخير لشبه جزيرة القرم واحتمال ضمها إلى روسيا بمبررات واهية تتوسل حماية الناطقين بالروسية، إلا مثال على الجواب الذي يقدمه بوتين للغرب. ولذا تبقى الأولوية في الوقت الراهن أن تفهم روسيا بوضوح أن أية تحركات جديدة في أوكرانيا لن يتم التسامح معها، وأن سلامة أراضي أوكرانيا وسيادتها أمر مقدس لا يمكن تجاوزه.
وفي هذا السياق لا بأس بإقرار أمور مثل فرض العزلة الدبلوماسية وتجميد الأصول وحظر السفر على طبقة رجال الأعمال المرتبطين بالكرملين. كما أن من شأن الإعلان الأخير عن إجراء مناورات جوية مشتركة مع دول البلطيق، ونقل مدمرة أميركية إلى البحر الأسود، أن يطمئن الحلفاء. هذا بالإضافة إلى إقرار مساعدات اقتصادية لأوكرانيا وقادتها الجدد الذين يتعين عليهم في ظل هذه الظروف العصيبة تنحية خلافاتهم والتركيز على إدارة البلد، بحيث تظل مهمتنا على المدى البعيد التصدي للنظرة التي يتبناها بوتين بشأن مستقبل أوروبا ما بعد الحرب الباردة. فهو يقول إن أوكرانيا لن تكون حرة بما يكفي للقيام بخياراتها الخاصة، وهي رسالة تتجاوز أوكرانيا إلى باقي أوروبا الشرقية ودول البلقان. كما يؤكد أن لروسيا مصالح خاصة ستحميها مهما كلف الأمر. ولأن الحرب الباردة بالنسبة لبوتين انتهت «على نحو مأساوي»، فهو يحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء من خلال الترهيب واستخدام القوة العسكرية، بالإضافة إلى الضغوط الاقتصادية، ما دام العجز الغربي يسمح له بذلك. ولعلنا ما زلنا نتذكر عندما غزت روسيا الأراضي الجورجية في 2008 أن الولايات المتحدة أرسلت بوارجها إلى البحر الأسود، كما نقلت الوحدات الجورجية التي كانت منتشرة في العراق إلى قواعدها في أرض الوطن. وعملت أيضاً على إيصال المساعدات الإنسانية إلى جورجيا. وهكذا حُرمت موسكو من هدفها المتمثل في الإطاحة بالحكومة المنتخبة ديمقراطياً، وهو الاعتراف الذي أسر لي به وزير الخارجية الروسي شخصياً.
بيد أن تلك الخطوات على تواضعها لم تستمر، فعلى رغم الاحتلال الروسي المتواصل لإقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، فقد تلاشت العزلة الدبلوماسية المضروبة على روسيا. ثم جاءت بعدها سياسة أوباما القائمة على «إعادة ضبط» العلاقة مع موسكو لتطوي خطط نشر صواريخ دفاعية في جمهورية التشيك وبولندا، وتوقف الحديث عن انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى حلف شمال الأطلسي. ولكن هذه المرة يجب أن يختلف الوضع، فبوتين يراهن على المدى البعيد من خلال استغلاله الذكي لكل فرصة متاحة، وهو الأمر نفسه الذي علينا القيام به بالتركيز على النفَس الطويل والتحلي بالصبر لوقف بوتين، ولاسيما أن موسكو ليست محصنة من الضغوط ولم تعد الاتحاد السوفييتي السابق، فالروس بحاجة إلى الاستثمارات الأجنبية، ورجال الأعمال المرتبطون بالنظام يحبون السفر إلى باريس ولندن. كما أن هناك قدراً هائلاً من الموجودات المريبة المودعة في البنوك الأجنبية. ولا ننسى أيضاً أن روسيا لا تتحمل انخفاضاً كبيراً في أسعار النفط، وخاصة أن طفرة النفط والغاز في أميركا الشمالية ستضعف قدرات موسكو الإنتاجية، ومن شأن الترخيص بمد أنبوب الغاز «كيستون إكي إل» والدفاع عن صادرات الغاز الأميركية، أن يوصل الرسالة المناسبة لبوتين بأن أوروبا قادرة على تنويع مصادر الطاقة ومد أنابيب لنقل الغاز لا تمر عبر روسيا.
ومن الواضح أن أفراد الشرائح الأكثر إنتاجاً ضمن الشعب الروسي، وهم الشباب المتعلم، ليسوا على وفاق مع الكرملين، لأنهم يعرفون أن بلدهم ليس مجرد مكان لاستخراج الموارد من قبل الشركات العملاقة، بل يحتاج إلى مزيد من الحريات السياسية والاقتصادية والقدرة على الابتكار والمساهمة في اقتصاد المعرفة، وهنا علينا التواصل مع الشباب الروسي، وخاصة الطلبة والمهنيين الذين يدرس العديد منهم في الجامعات الأميركية ويعملون مع شركات غربية. فالقوى الديمقراطية داخل روسيا، التي تمثل المستقبل وليس بوتين، بحاجة إلى سماع الدعم الأميركي، والأهم من ذلك يتعين على الولايات المتحدة استعادة مكانتها ضمن المجتمع الدولي بعد أن تآكلت بسبب المبالغة في مد يد الصداقة إلى خصومنا التي تكون أحياناً على حساب أصدقائنا. فعدم تحركنا في سوريا الذي عزز الحضور الروسي في الشرق الأوسط والانطباع بأننا متلهفون على اتفاق نووي مع إيران، لا يمكن فصلها عن تحركات بوتين الأخيرة، كما أن خفض موازنة الدفاع الأميركية يوحي بأنه لم تعد لدينا النية ولا الرغبة في التأثير في النظام الدولي. ويضاف إلى ذلك الحديث عن الانسحاب من أفغانستان بصرف النظر عن الوضع الأمني، فعندما رُوج لفكرة الانسحاب الأميركي وخفض الصوت المدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان اعتقد المراقبون أن الفراغ سيملؤه الحلفاء الديمقراطيون والمعايير الدولية، ولكن بدلاً من ذلك رأينا كيف قفزت لملء الفراغ القوى المتطرفة مثل «القاعدة» التي أطلت برأسها مجدداً في العراق وسوريا، أو الأنظمة الديكتاتورية مثل نظام الأسد الذي بمؤازرة من روسيا وإيران لا يتوانى في قتل شعبه، أو حتى من قبل الأصوات القومية الصادرة عن بكين وأمثال بوتين الذي يعي جيداً أن القوة الصلبة ما زالت مهمة في عالمنا.
واللافت أن هذه التطورات لم تأتِ كرد فعل على السياسة الخارجية الأميركية القائمة على القوة، بل لأن الرسائل التي تبعثها الولايات المتحدة تشي بالإرهاق وعدم الاهتمام، ولذا تمثل الأحداث الأخيرة في أوكرانيا دعوة تحذيرية للنخب الأميركية في الحزبين معاً ممن يعتقدون أن أميركا تستطيع التخلي عن مسؤوليتها الدولية في القيادة، فإذا لم ننتبه إلى هذا التحذير فإننا نجازف بتقوية المتطرفين والمستبدين حول العالم، وسينتهي بنا المطاف إلى دفع ثمن باهظ من مصالحنا وقيمنا التي ستداس من قبل هؤلاء.
(الاتحاد)