كما أسلفنا في المقال السابق فحزب النور لم يكن من سلفية "ولاة الأمر"، ولم يكن أبدا من دعاة "الطاعة". فالدعوة السلفية بالإسكندرية كانت دائما وأبدا تروج لمفهوم "الحاكمية"، وإن لم يكن بصيغة "قطبية" صرفة، وإنما بنظرة سلفية موروثة عن كتابات "أحمد شاكر" وفتوى الشيخ "محمد بن إبراهيم" في القوانين. وهذه السلفية في الأصل أسسها مهاجرون من "الجماعة الإسلامية" في التسعينات ومن "الإخوان". فمشايخ سلفية الإسكندرية هم خرجوا من تلك الجماعات ولم يتحللوا كلية من أفكارها الحاكمة.
فالحاكمية القطبية دخلت معهم ولكن بنكهة سلفية، والحركية الإخوانية دخلت معهم.. وهكذا كانت تلك السلفية الهجينة حالة جديدة في السياق السلفي
المصري، ثم بدأت حركتها في الجامعات بشكل واسع لتؤسس لحالة تنظيمية ما لبثت أن نمت حتى وجدت أن العائق أمامها ليس "الشيعة" أو الجهمية أو المعتزلة أو حتى أشعرية الأزهر، وإنما وجدت أمامها "حركة" كالإخوان هي المنافس وهي الخصم الحقيقي في الساحة، حيث أن الاشتراك في "الطبيعة" كونهما تنظيمين يعتمدان صيغة العمل الجماعي الذي يسعلى للامتلاء ثم ابتلاع المجتمع أو تغييره - هذا الاشتراك - ما لبث أن أضحى عنوان الخصومة ذاتها.
ومع أن مكامن التقارب في رؤية الإخوان للسلطة ورؤية سلفية الاسكندرية لها حادثة متحققة، كونهما يعتبرانها نظاما مخالفا للإسلام ولا يمكن اعتباره نظاما تنعقد له الولاية والبيعة، بخلاف أغلب السلفيات المصرية التي تعتبر السلطة ولاية متغلب متحققة واجبة الطاعة والبيعة، وكذلك يشتركان في خصومة أغلب التيارات السلفية المصرية حيث كانت مشايخ أنصار السنة مثلا يحاربون ويواجهون سلفية الاسكندرية أكثر مما يواجهون الإخوان، وكذلك كانا غير مرحب بهما كثيرا في الدولة مقارنة بسلفيات أخرى، بل كان يحارب نشاط سلفية الاسكندرية أمنيا خارج الاسكندرية وإن كان بأقل قدر من الإخوان، إلا أن وجودهم خارج المنطقة المسموحة لهم كان يعرضهم لمواجهة شرسة.. كل أوجه التقارب تلك لم تشفع لإحداث تقارب وتعاون حقيقي، بل إن ما حدث هو العكس تماما، فقد تحالفت ضرائر سلفية الاسكندرية مع الإخوان مرارا بينما رفض سلفيوا الإسكندرية دوما التحالف وحتى حين دخلوه خرجوا منه مسرعين بل وتحالفوا مع من انقلب عليهم سرا!
يعجز كثير من المحللين عن تفسير تلك الظاهرة، بل وكثير من سطحييهم يلجأون للخلط بين سلفية الاسكندرية وغيرها ويلصقون حيرتهم بأن هذه عادة سلفيات ولاة الأمر. لكن الحقيقة تقول أن هذه السلفية كانت ترى دوما أن النظام الحالي لا يعتبر نظام ولاية شرعية ولا تنعقد له بيعة ولا طاعة. إذا فكيف نفسر سلوك
حزب النور الحالي ولأي مرجعية ننسب سلوكه؟!.. فهو في كل مرجعيات النظرية كان يحذر من التحالف مع العلمانيين ويرى أنها حالة "ضد العقيدة" ولا يمكن تبريرها بمصلحه، وكان ياسر البرهامي يقول في الديمقراطية: "الديمقراطية مثل صنم العجوة الذي كان يصنعه المشرك فإذا جاع أكله، فالحكام العلمانيون إذا أحسوا بأي خطورة على مواقعهم وأن الإسلاميين على مقربة من الحكم سيسارعون بحل المجالس النيابية والأحزاب ويكون الجيش مستعداً دائماً وفوراً لإجهاض هذة الديمقراطية التي اخترعوها، لهذا وغيره نرى أن الحل البرلماني على ضوء ما طرحناه ليس هو الطريق" (كتاب السلفية ومناهج التغيير).
إن محاولة تفسير "السلوك" برده دوما إلى أصول "معرفية" ومنهجية ليس صحيحا ولا سليما، فالسلوك غالبا ما يكون تأثير "المنهجية" و"المعرفية" فيه ضعيفا في أوقات الفتن والاضطرابات، فهي تظهر دوما الدوافع النفسية الأكثر وضوحا والأكثر تجذرا في النفوس. ولذلك فإن محاولة تفسير سلوك النور بالربط بينه وبين الأصول المنهجية للسلفية السكندرية سرعان ما تبوء بالفشل لكون التناقض واضحا جدا بين ما أصّلت له هذه السلفية وبين ما سلكته عن اعتناق كامل ورضا منقطع النظير، وعليه فالتفسير السيكولوجي هو الأكثر علمية في فهم اختيارات سلفية الاسكندرية حتى الآن.
ولذلك نعمد في هذه السلسلة لتفسير هذا السلوك ورده إلى أصوله التي نراها حقيقية وفاعلة، وسأتجاوز الطرح الاختزالي من حيث رده إلى عمالة "أمنية" مجردة، أو فقه سلفي استسلامي فقط، بل نسبر أغوار نفسية "الجماعة السلفية" تجاه الجماعات الأخرى كموقف نفسي، وكذلك موقف الفرد "سيكولوجيا" كموقف شخصي، وكذلك موقف "القيادة" نفسيا وأثر الإرث التاريخي في منظومة اتخاذ القرار وترجيحات السياسة.. كذلك نتناول سر دعم "أبو الفتوح" في مرحلة لاحقة ومكامن وعمق هذا الاختيار.. كل ذلك يأتي لاحقا في سلسلة مقالات ربما تطول لتفسر هذه الظاهرة التي تستحق التأمل والعبرة في سياق العمل الإسلامي والحركة الإسلامية.