لم يكد يمر وقت قصير على الانقلاب في مصر وارتكاب مجزرة رابعة؛ إلا وقد بدأ يتردد السؤال الاكبر والأهم عن مصير التحولات
الفكرية والسياسية في سلوك الحركة الإسلامية وأفكارها. إن سؤال المستقبل الذي لايشغل بال كثيرين ممن هم مشغولون بطبيعة الحال بسؤال الحاضر وكيفية الخروج من المأزق، وتكتيكات "إنهاك" الانقلاب العسكري والانغماس المطلق في آليات المواجهة، بات اليوم السؤال الأهم لدى مراكز البحث الغربية و أجهزة المخابرات. إن سؤال "الاستشراف" والتنبؤ بالتحولات قبل وقوعها وتصميم استراتيجيات المواجهة الاستباقية على هذا الأساس هو أكثر ما يشغل هذه الجهات، حيث إنها قد فرغت من التخطيط للحاضر في الماضي ومايشغلها حاليا هو التنفيذ، بينما تغرق حركات إسلامية كانت تصول وتجول في الدعاية لنفسها على أنها تمتلك أكبر تنظيم متماسك وأفضل رؤية وتدعي دوما أنها في صراع مع منظومة دولية وإقليمية، لكنها في الحقيقة غارقة في ردود الافعال!
إن تجربة
الإخوان المسلمين في السلطة و تجربة كل الأحزاب الاسلامية خلال الـ 3 سنوات الماضية بما فيها حزب النور، توضح بما لا يدع مجالا للشك أو التردد أن أسطورة المؤسساتية في العمل الاسلامي محض "وهم"، وأن الأمر متروك لعواطف الشيوخ و "استلطاف" القيادات، وقد تبني هذه الحركات موقف من مؤسسة أو شخص في لعبة سياسية تموج بالمصالح والكذب والخداع والتآمر، وقد يتم اتخاذ موقف بناء على مشاهدات شخصية لـ "القيادة" أو على "مقولات" ذكرت في حضور بعض الشخصيات وليس على أساس تحليل شامل وكامل لمصالح المؤسسة التي يقف على رأسها وتقاطعاتها و خطاب إعلامها الذي ترعاه، فلا يوجد أي أساس علمي أو تحليلي في عملية بناء المواقف، وكل ما لدينا بخصوص "لماذا وثق الاخوان في كلام "فلان" أو صدق الشيخ السلفي كلام "علان"؟"، هي مجرد انحيازات نفسية ومواقف عاطفية وتقديرات شخصية أودت بكل الإسلاميين المهالك.
وهذا كله مرجعه ومآله إلى نقطتين رئيسيتين، الأولى وهي "الإغراق في الحاضر"، فالإغراق في الحاضر يحرمك من أهم ركيزتين في عمليات تحديد الموقف وتحليل طبيعة الصراع ، حيث أنك بغرقك في الحاضر تفقد الاتصال بالتسلسل التاريخي للصراع وبالتالي يمكنك تصور أن خصومة قديمة وراسخة ربما تكون استبدلت بالحاضر وانتهت وتحولت لتودد و التصاق كامل بمشروعك و بالتالي تفقد في الحقيقة بوصلة رئيسية في الصراع، فكل ما يحدث هو امتداد لتاريخ قديم طويل في صراع متصل بالسند التاريخي من مبدئه إلى منتهاه ولايمكن تصور أن جيلا ما في كيان ما لم يرث ذات الخصومة الفكرية والسياسية عن سابقيه، وبالتالي عندما تم الإغراق في الحاضر وطبيعته وانقطع النظر في الماضي وحقيقته حدث خلل كبير في تقدير المواقف وانخدع الإسلاميون بأعدائهم التقليديين .
كما أن الإغراق في "الحاضر" يحرمك من ركيزة أخرى هامة في تقدير الموقف؛ حيث أنه يحرمك من قراءة مشهد المستقبل وتوقعاته. وهذا الأمر ليس "ترفا" فكريا أو تخطيطيا و إنما هو من أهم ركائز القوة والسيطرة في الصراع وإدارته، حتى أنه في ملفات "البيزنيس" وصراعات الاقتصاد من يمتلك القدرة على قراءة المستقبل يستطيع أن يزرع بذرة سيطرته على المستقبل في الحاضر ويستطيع استباق المشكلات الكبرى بل وتوظيفها لصالحه، بل وحتى في "الطب" يتم حاليا عمل نوع من التحاليل الجينية لاكتشاف أمراض المستقبل في الجسد لمعالجتها في الحاضر، ومع هذا كله مازالت الحركة الإسلامية في مستوياتها الادارية ترى أن محاولات الاستشراف وقراءة المستقبل وتضمين ذلك لمنظومة القرار هو ضرب من الترف الإداري والفكري بينما هم مشغولون بصراع ودماء وخلاف ذلك .
أما النقطة الثانية التي أودت إلى أن نصل إلى هذا الاختلال فهي "الإغراق في التكتيك على حساب الأهداف" فمع رواج سوق المدرسة المقاصدية "التبريرية" منها لا الأصولية، ومع رواج مدرسة التيسير الفقهي في الحالة الإسلامية ومحاولة شرعنة الواقع دائما بالنبش في التراث لإيجاد اجتهادات شاذة، ثم إبرازها وكأنها حالة تأصيلية لتبرير مسألة واقعية؛ استطاعت هذه المدرسة الانتقال من مجرد قضايا فقهية حياتية إلى ملف السياسة والصراع، فالمدرسة التبريرية استطاعت أن تشرعن للإسلاميين تحولات في استخدام أدوات كاتت محرمة سابقا والانغماس في لعبة كانت ينظر لها بعين الجاهلية في أطروحات المؤسسين سابقا، وأضحت البراغماتية حالة لها تأصيل إسلامي و أضحت الخلافة ذاتها مجرد تصور لكونفدرالية اقتصادية واتسع الخرق بين أهداف الحركة الاسلامية وبين طبيعة تصورها للواقع الحالي، وبالتالي دخلت مرحلة التيه الفعلي وهي تظن في نفسها أنها تخوض معركتها باحتراف بينما هي تدخل أكبر عملية خداع في التاريخ الحديث، وتبتعد عن أهدافها كلية؛ بينما هي تعتقد أنها تقترب من تحقيق الهدف المنشود!
وهكذا أضحى الإغراق في الحاضر والإغراق في التكتيك .. أكبر كوارث الحركة الإسلامية في تدافعها وأصبحت توجهات الحركة بأكملها ألعوبة بمزاجيات أشخاص، أو تقديرات أشخاص مما سهل عملية التلاعب بكامل الحركة عن طريق مجرد التلاعب النفسي بأشخاص بعينهم، وهذه هي أكبر عملية تقزيم للحركة الإسلامية خلال صراعها الممتد منذ سقوط الخلافة !