مقالات مختارة

عن الخضيري والثورة .. سيمفونية التشويه النشاز

1300x600
سيكتبُ التاريخ أنه على الطريق الى 25 يناير، كانت تلك الصورة التي ربما نسيها الكثيرون، لوقفة القضاة المهيبة عصر الجمعة السابع عشر من مارس 2006، بأوشحتهم وأروابهم. ليس فقط دفاعًا عن استقلال حقيقي أنكرته عليهم دولة الاستبداد، بل دفاعًا عن حق كل منا في عدالةٍ لا يتحكم بها حاكمٌ أو سلطة، وصندوقِ انتخاباتٍ نزيه لا تعبث به مصالحُ أو حسابات.

لا أستطيعُ أن أعود الى الصورةِ «الوقورة المهيبة»، التي سبق أن كتبت عنها في حينه، دون أن أرى في صفها الأول المستشار محمود الخضيري، الذي لطالما احترمته «واختلفت معه». والذي كنت ألحظ طوال الأعوام الثلاثة الماضية، بعد أن وصل به العمر ما وصل به كم كانت صحته لا تسعفه (كما لن تسعفنا جميعًا في يوم من الأيام)، حركة أو إبصارا أو تركيزا في قول أو رأي.

ينتظر الخضيري (74 عاما) تحديدَ جلسةٍ لمحاكمته، ربما بعد أيام من ذهاب رفيقه في «الصف الأول» لوقفة 2006 المهيبة (هشام جنينة) الى المحكمة، لا كقاضٍ يحاولُ أن يتمسك في أحكامه باستقلال ناضل من أجله، بل كمتهم «بالإساءة الى القضاء»(!)

لا أعلم تفاصيلَ «تكييف» الاتهامات المسندة الى «القاضيين الجليلين»، كما أربأ بنفسي من الخوض في التفاصيل القانونية لقضية، باتت أمام هيئة موقرة؛ أدلةً أوقرائن، الى جانب «ظروف وبواعث ودوافع وملابسات» محيطة بالواقعة، فضلا عن مدى «توافر القصد الجنائي». ولكني قرأت فيما نقلته وسائل الإعلام «والعهدة على الراوي»، أن قضية الخضيري تتعلق بوقائع جرت في «ميدان التحرير» في اليوم التالي للمواجهة الدموية التي عرفت بموقعة الجمل. والتي يَذكرُ من مشاهدها من مازال يذكر مشهدَ ضابط القوات المسلحة الشاب «النقيب ماجد بولس»؛ أسد التحرير الذي حاول بمسدسه أن يمنع المعتدين من استكمال جريمتهم بحق الميدان ومن فيه.

من الناحية السياسية فقط، لا القانونية استوقفني في «تكييف الواقعة» ما تعلمناه في كتب السياسة والتاريخ من أن «الثورة»، تعريفًا هي فعل مخالف للقانون. بكل ما يحدث فيها من وقائع تجمهر وشغب ومقاومة سلطات فضلا عن «محاولة قلب نظام الحكم» (المادة 87 من قانون العقوبات، والتي تصل العقوبة فيها الى الإعدام). وما الثورة، أي ثورة، في تعريفها النهائي إلا محاولة لقلب نظام الحكم. ولهذا قالوا: «أن الثورة إذا فشلت أُعدم الثوار، وإذا نجحت أقاموا لهم التماثيل»، وعليه يصبح سؤال (طرحناه سابقًا) حول تباين كان دائما موجودا، في تعريف ما جرى في 25 يناير مشروعًا ومطلوبًا، بل وملحًا .. لنفهم: إما أن نعتبرها «موجة ثورية» ولهذا حكمه وقانونه وشرعيته، أو نعتبرها «محاولة لقلب نظام الحكم»، تُصبح معها الملايين التي شاركت أو حرضت مشاركة في «الجريمة» (!) ... دعونا، من فضلكم نتفق بداية، حتى تستقيم أحكامنا على هذا الفعل أو ذاك.

ثم أنه، وليس إقرارا بأن الانتماء الى الإخوان أو غيرهم هو تهمة «في حد ذاتها». إلا أنه وإقرارا للحق في مواجهة «مكارثية» حذرنا منها، تلوك إعلاميًا «ما أصبح اتهاما» في مواجهة هذا وذاك؛ تصفية لحسابات، أو انتقامًا أو ثأرًا أو مسايرة. أو «استجابة» لطلبات أو تعليمات. (وصل الهزل ببعضهم الى اتهام رموز جبهة الانقاذ من أعضاء الحكومة بالتنسيق مع الإخوان المسلمين)، أُذكر من نسي بأن الخضيري، الذي اتهموه «اعلاميًا» بأنه إخواني أنكر على الإخوان علنا مطالبتهم بما أسموه «تطهير القضاء» (قناة التحرير: 19 أبريل 2013)، كما طالب بوضوح بعودة عبد المجيد محمود، معتبرًا أن تعيين مرسي لنائب عام آخر فيه افتئات على استقلال القضاء. وهو بالمناسبة، والذكرى تنفع المؤمنين الموقف ذاته الذي أعلنه أحمد مكي وطارق البشري وقتها.

سياسيا، لا قضائيا، لا أستطيع أن أنظر الى محاسبة الخضيري على ما اقترفه من جريمة «في الميدان»، بمعزل عن محاولات شتى لتشويه كل من مهد أو أو دعا أو شارك في ما جرى في يناير 2011، فيما بدا «سيمفونيةَ نشازٍ» متكاملة لنظام يريد أن ينتقم من لحظة اجتمع فيها الشعب كله على شعار واحد «الشعب يريد إسقاط النظام» .. هل ما زلتم تذكرون.

المحاولات الدنيئة للتشويه والاستنزاف والإرهاق لم تدع أحدًا بداية من 6 أبريل وشبابها (أحمد ماهر وصحبه نموذجا) وليس نهاية بوائل غنيم المتهم بعمالته فضلا عن ماسونيته. أو محمد البرادعي، حاضرا وغائبًا (!). شارك في ذلك للأسف، مباشرة أو من خلف ستار كل من حكم بعد الحادي عشر من فبراير 2011

وبالمناسبة لا تختلف محاولات التشويه تلك، عن بعض هزلٍ فيما يُنسَبُ إلى هذا الإخواني أو ذاك. كما أنها، للمفارقة لا تختلفُ في حمقها أو خبثها عن ما جرى ويجري مع القوات المسلحة والإعلام والقضاء من محاولات تشويه لم تفرق بين «المؤسسة» وبين أفراد منتمين اليها، أو ممارسات قام بها هذا أو ذاك. فرأيناها مثلا تنجرف «بكل الحمق» الى محاولة تشويه «القوات المسلحة». غافلة عن حقيقة أن الجسم الأساس لجيش مصر هو من أبنائها «المجندين»، وأن لا أسرة تقريبًا في مصر لم يشرف فرد منها بالخدمة يومًا في قواتها المسلحة. وأن جيش مصر هو الجيش العربي الوحيد الباقي متماسكا في المنطقة بعد أن جرى ما جرى هنا وهناك.

كما رأيناها مرارا تنجرف، واعية أو غافلة لتشويه «القضاء»؛ محاصرة للمحاكم، وهتافات في الشوارع، ومشروعات قوانين مجتزئة، وإشارات متكررة متجاوزة في خطابات الرئيس، فضلا عن محاولات شق صف القضاة، أو حتى ما بدا مغرضًا، أو غافلا بإحالة قضايا تنقصها الأدلة بالضرورة الى محاكم الجنايات التي لا تملك حيال ما بين أيديها من أوراق الا أن تحكم ببراءة، تستفز العامة، فتفقد المنصة مصداقيتها، وذلك بدلا من ما كان يجب من «محاكمة لنظام» على إفساد سياسي واقتصادي، وانتهاكات لحقوق الانسان لضمان عدم تكرارها مستقبلا..

وفي هذا كله حديث يطول.

وبعد ..
فلعل من نافلة القول أن نقول: حافظوا على «القضاء». حافظوا على «القوات المسلحة». حافظوا على «الثورة»... أو باختصار: حافظوا على مصر.

ولكن يبدو أن علينا جميعًا أن نتذكر قوله سبحانه:?.. وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى? أَلَّا تَعْدِلُوا ? اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?? صدق الله العظيم

عن صحيفة الشروق