الأجواء في القاهرة هذه الأيام بالغة الإثارة، وليس معنى ذلك أنها لم تكن مثيرة من قبل، فلعلها لم تتخل عن الانفعال منذ ذلك اليوم الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) 2011، ولكن الإثارة هذه المرة مختلفة، حيث يشوبها قدر من التفاؤل والأمل. صدق أو لا تصدق، أن أزمة المرور المستحكمة يبدو أنها من الممكن التعامل معها، ولأيام مضت فإن حالة السيولة في شوارع المحروسة بدت على غير عادتها الخانقة. المسألة بالطبع ليست حالة حركة السيارات فقط، ولكن هناك حزمة من الأنباء الطيبة، فعلى عكس توقعات كل المتشائمين جرى رفع حالة الطوارئ وتوابعها من الحظر على الحركة بين الساعة الواحدة صباحا وحتى الخامسة فجرا، بينما هي يوم الجمعة بين السابعة مساء والخامسة فجرا. انتهى كل ذلك، وأصبح
المصريون أحرارا في ممارسة عادات السهر الطويل. وباختصار، العودة إلى الحالة الطبيعية. مثل ذلك وحده يمكن أن يكون سببا للسعادة، ولكن هناك ما هو أكثر، فالاحتياطي القومي أصبح في أمان (مع الشكر بالطبع للدول العربية الشقيقة)، ولكن نتائج ذلك من حيث تخفيض عجز الموازنة، وتحسين حالة الجنيه المصري، واختفاء السوق السوداء، وارتفاع البورصة، وانخفاض حالات الإرهاب والمظاهرات والإضرابات إلى حدود دنيا، كلها أمور لا يمكن تجاهلها حتى ولو أصر محترفو التشاؤم على أن وزارة اليد المرتعشة لم تفعل شيئا. ورغم ما يبدو من ضجيج حول لجنة الخمسين التي تناقش الدستور، فإن المراقبة الواعية تجعلنا أمام عملية مساومة سياسية ضرورية في هذا المجال بين قوى سياسية تعددت مصالحها، ولكن المهم أنها سوف تصل إلى دستور سوف يرضي المصريين. الدستور كان دائما وفي كل العالم حزمة من الحلول الوسط، ومصر ليست استثناء من القاعدة.
هناك أشياء أخرى، ولكن المقام لا يتسع، وأهمها أن هناك حالة من "النوستالجيا" انتابت مصر والمصريين حينما جرى الإعلان عن قيام وزيري الخارجية والدفاع الروسيين بزيارة القاهرة. فجأة، بدا الإعلان كما لو كان الدب الروسي قد عاد مرة أخرى إلى القاهرة، ومعه عادت الأيام السعيدة للخمسينات والستينات وكسر احتكار السلاح ورد اللطمات للولايات المتحدة الأميركية. لم يكن مهما التحقق لا مما جرى، ولا مما يجري، فتلك طبيعة "النوستالجيا" التي تجعل أيام الماضي وردية ورومانسية وحميمة ودافئة بأمور جميلة، تلهب الأعصاب بالحمية، والعقول بالطموح، والقلوب بالسعادة. الحقيقة هنا تختفي خلف ما هو متواتر، ويعاد تفصيلها لتناسب آمال الحاضر، فليس مهما التحقق عما إذا كانت الخمسينات والستينات التي جرى احتلال جزءا من مصر فيها مرتين كانت أياما سعيدة، وبالتأكيد فإن أحدا لم يراجع عما إذا كان التأثير "السوفياتي" في ذلك الوقت على مصر سياسيا وآيديولوجيا واقتصاديا واجتماعيا، من فضائل الأمور أم أكثرها شرا. الواضح أن الأهم من ذلك كله وفق وجهة النظر الشائعة هو "النكاية" والمكايدة في واشنطن التي تجاوزت حدود الصداقة والتحالف على مدى عقود أربعة ماضية. ولذلك كانت إعادة إنتاج الماضي بحذافيره، وبينما تحوم شخصية عبد الناصر في الآفاق، فإن "كسر احتكار السلاح"، والمصانع السوفياتية البديلة، وتكنولوجيات الوصول إلى القمر، سوف تغمر القاهرة في المستقبل القريب. وليس أدل على أهمية الموقف من أن
روسيا لم ترسل وزيرا واحدا فقط، بل أرسلت اثنين، وزيري الدفاع والخارجية، في سابقة أصر الجميع على أنها لم تحدث من قبل، دلالة على الالتزام السوفياتي الجديد، وخاصة أنه قد شاع أن في الجعبة صفقة سلاح ضخمة تراوح تقديرها ما بين مليارين وأربعة مليارات من الدولارات.
على الأحوال، فإن هذه النبوءة سوف تختبر قبل نشر هذا المقال، ولكن هناك مجموعة من الحقائق التي ينبغي تذكرها في هذا المقام. أولها أن مصر حتى بعد اكتمال استقرارها وعودتها إلى حالتها الطبيعية سوف تكون من الوهن بعد الحالة الثورية التي عاشتها بحيث إنها تحتاج إلى علاقات حسنة مع كل دول العالم، لا يستثنى منها أحدا ولا يستبعد. لذلك فإن العلاقات مع روسيا والصين وغيرهما من دول العالم الكبرى والصغرى هي من مقتضيات الضرورة، فلا تملك مصر ترف استبعاد أحد. وثانيها، أن مثل ذلك وعلى حد تعبير المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية المصرية، يعني الإضافة للموارد الخارجية المصرية وليس الخصم منها، ومن ثم فإن العلاقات تطلب لما فيها من جدارة، وليس للنكاية أو المكايدة، فمصر لا تستبدل طرفا آخر بطرف، وإنما هو توسيع من مجال حركتها الخارجية. وثالثها لمن لا يعرف بعد، أن الاتحاد السوفياتي قد انهار وانتهت معه الحرب الباردة، ومعه مات حلف وارسو، وروسيا الاتحادية قد تكون الوريث القانوني للاتحاد السوفياتي، ولكنها ليست الوريث المختص بدولة عظمى في العالم. وحتى تكون الأمور كلها واضحة فإن الناتج المحلي الإجمالي لروسيا يزيد قليلا على تريليوني دولار، بينما هو 16 تريليونا بالنسبة للولايات المتحدة، أي ثمانية أمثال روسيا الاتحادية، ولكن هذه الأخيرة رغم ما يبدو من وهنها، فإن وراءها تحالفا غربيا وحلفا أطلنطيا مع أوروبا، وآخر باسفيكيا مع اليابان، وكلها تستحوذ على 80 في المائة من الناتج الإجمالي العالمي وما هو أكثر من التكنولوجيا العالمية الجديدة. هذه هي حقائق توازن القوى في العالم دون حتى إضافة مستويات التصنيع والثقافة وكل عناصر القوة "الناعمة" و"الخشنة" الأخرى. ورابعا أن أول من يعرف هذه الحقائق هم النخبة الروسية الجديدة الساعية إلى التقدم من خلال مستوى من الديمقراطية المناسبة لروسيا الأرثوذوكسية السلافية، وهي في العموم لا تزال بعيدة عن المستويات المتقدمة في الغرب، ومن خلال التعاون مع القوى المتوسطة الجديدة والصاعدة في العالم مثل الهند والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا. ولكن مثل هذا التعاون ليس حلف وارسو آخر، فالتعاون الروسي - الغربي، والأميركي خاصة، من حيث التجارة والاستثمار ونقل التكنولوجيا، أكبر بكثير من أي علاقات لروسيا مع دول أخرى. وقد يصل هذا التعاون إلى ذروته في الشرق الأوسط، حيث اتفقت موسكو مع واشنطن على تفادي الضربة الجوية من خلال تسليم السلاح الكيماوي السوري، فكان تغير موازين استراتيجية مقابل إعطاء نظام بشار الأسد مهلة إضافية. بعد ذلك تلتقي العاصمتان على السياسات الخاصة بإيران وقدراتها النووية، وأفغانستان، وبالطبع التعاون في مجال الحرب على الإرهاب.
الخلاصة أن الدب الروسي يصل إلى مصر وقد جرى تقليم أظافره، وهو في النهاية يريد ما تريده مصر من توسيع نطاق ومجال حركته في العالم، وهو حق مشروع للجميع، والمهم ألا يبالغ أحد في الأحلام، فاليقظة في عالم السياسة الدولية تحمي من كوابيس كثيرة.
(عن صحيفة الشرق الأوسط)