ما حدث في شباط/ فبراير 2011 كان يتوقعه أقرب المقربين إلى
القذافي، لا أعتقد أن أي عاقل كان يخفى عليه أن نظام القذافي كان على وشك الانهيار، وأن مراحل شيخوخته كانت ظاهرة للعيان، وأنه إذا لم يستدرك ويصلح فإن نظامه سيسقط.
حاولت "
ليبيا الغد" إحداث تغييرات في داخل بنية النظام في مجال الإعلام والحريات العامة، وفي طريقة التعامل مع ملف حقوق الإنسان، وحاولت تسوية ملف مذبحة بوسليم البشعة، إلا أن محاولتها شابها التردد وتمت مواجهتها بالرفض من قبل القذافي الأب ولجانه الثورية؛ بالرغم من أن الأمور في ليبيا كانت تتجه نحو الأسوأ، ولم تعد تحتمل التأجيل.
ثم جاءت
ثورة فبراير.. وكان جل الليبيين فرحين بسقوط نظام القذافي. كانوا فرحين بفتح نافذة للتغيير نحو الأفضل، إلا أن التشنج وخُلق الانتقام والتشفي كان هو الحالة السائدة لدى معظم الذين ثاروا على القذافي، وهذا نتيجة طبيعية للحصاد المر لأربعة عقود من الظلم والتجهيل. هذه الحالة السائدة كانت سببا في انقسام الليبيين حول الثورة.
مجلس قيادة ثورة فبراير ..
على النقيض من التغيير الذي حدث في الأول من سبتمبر 1969م، حين أسقط مجموعة من الضباط على رأسهم الملازم معمر القذافي النظام الملكي وتولوا الحكم من بعده، وأقاموا نظام حكم أطلق عليه القذافي "النظام الجماهيري"، سيطر على كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد. لم يكن في ثورة فبراير قيادة موحدة؛ خططت ونفذت وقادت، ولذلك تولى قيادة الثورة شخصيات انشقت عن نظام القذافي.
فقد تولى أمين اللجنة الشعبية العامة للعدل المستشار مصطفى عبد الجليل رئاسة المجلس الوطني الانتقالي، وتولى أمين اللجنة الشعبية العامة للأمن العام عبد الفتاح يونس رحمه الله رئاسة الأركان، وتولى أمين اللجنة الشعبية للخارجية والتعاون الدولي السابق ومندوب ليبيا الدائم بالأمم المتحدة عبد الرحمن شلقم وزارة الخارجية، وتولى أمين مجلس التخطيط محمود جبريل رحمه الله رئاسة الحكومة، وتولى أمين اللجنة الشعبية للاقتصاد الأسبق وسفير ليبيا بالهند الدكتور علي العيساوي منصب نائب رئيس الحكومة.
أربعة من هؤلاء الخمسة كانوا على رأس أعمالهم -في نظام القذافي- صبيحة يوم 17 فبراير، وهم من تولى زمام القيادة السياسية والعسكرية الفعلية للثورة بعد انشقاقهم عن نظام القذافي، إلى حين تحرير العاصمة طرابلس، وبعد سقوط نظام القذافي في العاصمة كثر اللاعبون في المشهد.
دخل المشهد السياسي، بعد تحرير العاصمة، لاعبون جدد فرضهم (الانتصار) والسلاح؛ بقي الكثيرون على العهد يذودون عن الثورة، وكانوا السد المنيع أمام عودة الاستبداد وحكم الفرد من جديد، ولكن بريق السلطة ونفوذها استهوى عددا آخر، ركضوا وراء المال وجمعوه من حله وحرامه، وقاموا بالسطو على المؤسسات والاستئثار بالاعتمادات وامتهنوا الجريمة المنظمة من تهريب البشر والنفط، فدخلت ليبيا في صراعات على السلطة.
ماهية الصراع على السلطة؟
يتركز الصراع على السلطة في ثلاثة أنماط؛ الأول: أنه صراع على الجغرافيا والثروة بالوكالة، حيث تسعى بعض الدول، من خلال أدوات ليبية، للسيطرة على جغرافيا ومقدرات الشعب الليبي، وتجييرها لصالحها.
والثاني: هو أن هناك من قام بجرائم مختلفة، ويريد أن يفلت منها بوصوله للحكم. والنمط الثالث: هو أن هناك من يريد الإمساك بمقاليد الحكم لتحقيق طموحه الاستبدادي أو من أجل الانتقام من خصومه.
فإذا نظرنا إلى كل من يسعى للوصول للسلطة الآن، وعرضناه على هذه الأنماط الثلاثة، فسنجد أن هناك كثيرين ينطبق عليهم أحد أو كل هذه الأنماط مجتمعة. وبذلك يتبين لكل ذي لب؛ أن المصلحة الوطنية الليبية ليست ضمن أولويات هؤلاء الأشخاص، بل إن ليبيا ليست في أي من أولوياتهم للأسف.
ليبيا انتقلت من نواة دولة في 1951، إلى لا دولة في 1969، ومنها إلى الفوضى الحالية، لذلك يجب أن تعطى الأولوية إلى إعادة بناء الدولة على أسس سليمة
فبراير .. أخطاء كارثية
فبراير ليست انقلابا يهدم ويتولى البناء، بل ثورة تهدم فقط. الثورة ليست حدثا جيدا، فهي آخر الدواء، وفي الغالب لا يوجد لها قيادة؛ فهي عمل غير مخطط، ولكنه حدث عفوي، ثورة "فوران"، تقتضيه سنة التداول وانتزاع الملك ممن يشاء الله، وإيتائه لمن يشاء الله تعالى. حدث يهدم ولا قيادة له وهذا قد يكون من عوامل فشل الثورات، ومن الثغرات التي يدخل منها أعداؤها لوأدها، ومع ذلك فهناك محطات يحسن الوقوف عندها لمعرفة أهم هذه الأخطاء التي ارتكبت خلال مسيرة الثورة:
1) لقد كان تدخل الناتو أحد هذه الأخطاء، بالرغم من أن عدم تدخله كان سيعني أن الثورة ستسحق من قبل القذافي، ولكن تدخله أيضا ضيع سيادة ليبيا وصار الحل بيد المتدخلين فأصبحت ليبيا ملعبا لمخابرات وسفراء الدول الأجنبية المتدخلة في الشأن الليبي، وصار الساسة أداةً في أيديهم، يحجون إليهم ويخطبون ودهم. ولعل أحداث غزة الأخيرة مؤشر على ذلك؛ فلما أصدر مجلس النواب الليبي بيانا دعا فيه إلى طرد سفراء الدول الداعمة للكيان الصهيوني كان هو أول من خالف ذلك البيان، وكذلك خالف المجلس الأعلى للدولة بيانه الذي أصدره، ودعا فيه إلى وقف التعامل مع سفراء تلك الدول. كلاهما ضرب عرض الحائط بالبيان الذي صدر عنه، وهذا دليل على ضعف إرادة أولئك الساسة أمام المتدخلين الأجانب في الشأن الليبي.
2) المجلس الوطني الانتقالي ارتكب ثلاثة أخطاء كبيرة؛ أول هذه الأخطاء إجراء الانتخابات وتسليم السلطة قبل الإشراف على صياغة الدستور وإصداره بعد الاستفتاء عليه، وتمادى الانتقالي في هذا الخطأ بإصداره تعديلا دستوريا في اللحظة الأخيرة من عمره، فجعل الهيئة الوطنية لصياغة الدستور منتخبة وبشروط مستحيلة ساهمت في إفشال أعمال هيئة الستين.
والخطأ الثاني: هو تورط بعض أعضائه في أخطاء كارثية أدت إلى اغتيال عبدالفتاح يونس، وفشله هو، ومكتبه التنفيذي في التحقيق في القضية. وهي من الأخطاء التي جعلت من الصعب أن يستمر المجلس الانتقالي في السلطة إلى حين صدور الدستور، بالنظر إلى الضعف الشديد الذي كان يعتري قيادته.
والخطأ الثالث: هو العبث بقانون انتخاب المؤتمر الوطني العام مما ساهم في انتخاب مؤتمر وطني عام مشوه.
3) كما ارتكب المؤتمر الوطني العام جملة من الأخطاء؛ أبرزها عدم تعديل الخطأ الذي ارتكبه المجلس الوطني الانتقالي بشأن انتخاب هيئة الستين، وكان بوسعه إجراء تعديل دستوري جديد -بعد أن طعن في التعديل الذي أصدره الانتقالي- بحيث يتم تعيين اللجنة بدلا من انتخابها، وتسهيل توصلها لقرارات بالأغلبية بدلا من الثلثين طالما أن المشروع سيعرض على الشعب الليبي للاستفتاء العام.
ومن أخطاء المؤتمر كذلك استجابته لحملة لا للتمديد التي حرفت مسيرته، وأيضا إصداره لقانون انتخابات سيء، بل أسوأ من القانون الذي أصدره المجلس الانتقالي، فكانت النتيجة مجلس النواب الكارثي. المؤتمر أصدر أيضا القرار رقم 7 سيء السمعة بحق مدينة بني وليد. كما أصدر قانون العزل السياسي الذي جاء نتيجة خلاف بين تحالف القوى الوطنية وجبهة الإنقاذ، فكانت له عواقب وخيمة على مسيرة الثورة فتحول كثير من المتأثرين بالقانون إلى أعداء لمسيرتها.
4) لإن كانت آثار الفشل في التحقيق في مقتل اللواء عبدالفتاح يونس، وإفلات الجناة من المحاسبة كارثية على الداخل الليبي، فإن مقتل السفير الأمريكي كريستوفر ستيفنز وثلاثة من مرافقيه في مدينة بنغازي في سبتمبر 2012 كان كارثيا على الداخل الليبي ومصالح ليبيا الخارجية.
سجل مقتل السفير الأمريكي ومرافقيه؛ أول اختبار للمؤتمر الوطني العام وأخطر فشل للحكومة، والحكومات المتعاقبة، وكان له عواقب وخيمة على الثورة، ومازالت الدولة الليبية تعاني من آثاره إلى اليوم. الفشل في القبض على الجناة ومحاسبتهم، مهد الطريق أمام حالات اغتيال غريبة ومتعددة، لم يفتح في أي منها أي تحقيقات جادة. أدى ذلك إلى وضع متشابك في جميع أنحاء ليبيا، ودعمت الولايات المتحدة وحلفاؤها حفتر للانتقام لسفيرها. لذلك استغل حفتر هذه الفرصة للعمل على إسقاط المؤتمر الوطني العام، وفي القضاء على خصومه من الثوار. ويمكن تشبيه ما حصل في بنغازي بما حصل في الفالوجة -بعد مقتل أربعة أمريكان- ولكن بأدوات ليبية.
أيدت السفيرة الأمريكية ديبورا جونز محاولات اللواء المتقاعد الليبي-الأمريكي الجنسية خليفة بلقاسم حفتر، في تصديه لكتائب الثوار -وكذلك للمجموعات الجهادية المصنفة دوليا بأنها إرهابية ومنها داعش التي كانت أيضا متواجدة في درنة وبنغازي- فوصفت الثوار والمجموعات الجهادية بالأعداء، وقالت “كيف لي أن أدين من يقاتل عدوي؟”.
5) نجح حفتر في القضاء على كتائب الثوار -وصفهم بالإرهابيين بالنظر لتواجد عناصر ومجموعات تحارب حفتر مصنفة دوليا بأنها إرهابية- بعد عدة معارك أدت إلى تدمير كبير في مدينتي بنغازي ودرنة، ولكن الغريب أن حفتر -وفقا للعديد من وسائل الإعلام الأجنبية- فتح لداعش ممرات آمنة للخروج من درنة وبنغازي، والتوجه نحو سرت لإنهاك قوات الوفاق "قوات البنيان المرصوص" التي كانت تقاتل داعش في سرت. حفتر الذي وصفته جريدة نيويورك تايمز الشهيرة، في أكثر من مقال بأنه يُعَدُّ من أصول المخابرات المركزية الأمريكية "أي من ممتلكاتها" -كان بالإمكان أن يرفع حفتر دعوة قضائية على الجريدة، ليثبت عدم صدقيتها، لكنه لم يفعل- قام بالانتقام ممن شارك في قتل السفير الأمريكي، واستغل الفرصة أيضا للقضاء على خصومه من الثوار.
بهذا الفعل استحق حفتر أن تفتح له خزائن ومخازن أسلحة حلفاء أمريكا، ليشن عدوانه المدمر على طرابلس في أبريل 2019.
6) أعلن حفتر عملية الكرامة، وأعلن المؤتمر الوطني العام عملية فجر ليبيا. انتخب مجلس النواب، ورفض المؤتمر الوطني العام التسليم للمجلس المنتخب، بحجة بطلان انعقاد الجلسة الأولى. طُعن في انتخاب مجلس النواب في الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا والتي حكمت بانعدام مجلس النواب، ورفض مجلس النواب الانصياع للحكم القضائي، فاستغل حفتر هذا الصراع السياسي فحوله إلى صراع مسلح ودخلت ليبيا نفق الانقسام فصار في ليبيا مجلسان تشريعيان، ومصرفان مركزيان، وجيشان، وحكومتان.
جاء الاتفاق السياسي الموقع في بوزنيقة المغربية لتوحيد المؤسسات وإنهاء الانقسام، ولكنه فشل واستمر الانقسام السياسي والمؤسسي، ثم جاءت جنيف كمحاولة جديدة، ولكنها أُفشلت.
لا شك أن ثورة فبراير نجحت في إنهاء حكم القذافي، لكنها فشلت في إقامة البديل، ومازالت تقاوم محاولات إرجاعها إلى الوراء إلى الاستبداد، وحكم الفرد من جديد. ليبيا لم تتأسس فيها دولة بعد، ويجب أن تعطى الأولوية فيها لتأسيس هذه الدولة؛ دولة العدل، والقانون، والمواطنة، والمؤسسات والحقوق والحريات، التي تنطلق من ثوابت الشعب الليبي، وتحافظ على وحدته وسيادته، وتجعل أولويتها القطيعة مع الاستبداد وحكم الفرد، وخدمة المواطن وإشعاره بكرامته.
ليبيا انتقلت من نواة دولة في 1951، إلى لا دولة في 1969، ومنها إلى
الفوضى الحالية، لذلك يجب أن تعطى الأولوية إلى إعادة بناء الدولة على أسس سليمة. هذه الدولة الليبية الجديدة لا يجب الزج بها في أتون صراع انتخابي جديد قبل التوافق على دعائم ثلاث؛ المصالحة الوطنية الجادة، ووضع دستور جامع للبلاد، وتوحيد المؤسسات، ثم تجرى الانتخابات بعد ذلك.