في
25 آب/ أغسطس المنصرم، قام الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني، رئيس مجلس
الوزراء وزير الخارجية في
قطر، بتقديم المحاضرة الافتتاحية من سلسة محاضرات
"رافلز" وذلك بمقر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بسنغافورة (IISS)،
بعنوان "الدول الصغيرة: استراتيجيات النجاح في عالم تنافسي".. الحقيقة
أن تلك المحاضرة والأسئلة التي أعقبتها والردود عليها، تعتبر نافذة مهمة، يمكن من
خلالها فهم كيف تتعامل الدول الصغيرة بفعالية، مع التحديات الإقليمية والدولية من
أجل تأمين مصالحها، ليس هذا فحسب؛ بل ولعب دور هام في عدد من الملفات، يجعل منها
قوة رئيسية لا يمكن تغافلها، وكذلك تمكننا من فهم الدور القطري الفعال؛ الذي جعل
من قطر كدولة صغيرة، قوة رئيسية كبيرة من خلال المحاور التالية:
وسيط
عالي الموثوقية
نجحت
قطر كدولة صغيرة في لعب دور الوسيط عالي الموثوقية؛ الذي تلجأ إليه القوي الكبرى
على المستويين الدولي والإقليمي، مما رسخ دور قطر كقوة إقليمية فاعلة لا يمكن
تغافلها في حفظ الأمن والاستقرار الدوليين، فشهدنا كيف لجأت الولايات المتحدة إلى
الوساطة القطرية للتوصل إلى اتفاق مع حكومة طالبان؛ يهدف إلى إنهاء التواجد
الأمريكي في أفغانستان بعد عقود بدعوى محاربة الإرهاب. ولم يتوقف الدور القطري على
ترتيب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، بل ما زالت قطر تلعب دور الوسيط الموثوق
فيه بين حكومة طالبان والمجتمع الدولي؛ في عدد من القضايا محل الخلاف بين الطرفين،
بالإضافة إلى الاهتمام القطري بوجود خارطة طريق، يمكن من خلالها تحقيق التنمية في
أفغانستان لضمان الاستقرار والسلم هناك.
كما
نجحت قطر في لعب دور بالغ التعقيد بالوساطة بين العدوين اللدودين؛ الولايات
المتحدة وإيران من أجل إتمام صفقة لتبادل السجناء، والإفراج عن ستة مليارات دولار
من الأموال الإيرانية المجمدة في الخارج (بنوك كوريا الجنوبية والعراق)، التي سيتم
تحويلها إلى بنوك الدوحة وستشرف قطر على استخدام تلك الأموال فيما يخص الأغراض
الإنسانية، بهدف تخفيف المعاناة عن كاهل المواطن الإيراني؛ الذي يعاني من جراء
سياسات الحصار التي تفرضها الولايات المتحدة على إيران منذ فترة طويلة، وقد استغرق
التوصل إلى تلك الصفقة بين العدوين اللدودين، الكثير من الوقت والترتيبات المعقدة،
حيث أكدت بعض المصادر المطلعة في تصريحات لوسائل الإعلام، أن الدوحة استضافت جولات
ماراثونية من المفاوضات، وصل عددها إلى ثماني جولات على أقل تقدير، وشهدت هذه
الجولات مفاوضات مباشرة بين مفاوضين أمريكيين وإيرانيين بشكل مباشر برعاية قطرية.
كما
تم الاتفاق على أن تكون الدوحة هي المكان؛ الذي سيتم فيها تبادل السجناء بين
الولايات المتحدة وإيران، وهذا يؤكد على مكانة قطر كوسيط عالي الموثوقية؛ ففي
الوقت الذي لا يثق فيه كل من الولايات المتحدة وإيران في الآخر، لكنهما يثقان في
قطر كوسيط.
كما
لعبت قطر دور حيوي في الحرب الدائرة في أوكرانيا بين الغرب (بقيادة الولايات
المتحدة) وروسيا، وتأثيراتها بالغة الأثر على الأمن الغذائي خصوصاً للدول الفقيرة،
بعد توقف اتفاق "البحر الأسود" الذي كان يتم بمقتضاه نقل الحبوب (على
رأسها القمح)، حيث قامت قطر بتمويل صفقة تشمل مليون طن من القمح، سيتم إرسالها من
روسيا إلى تركيا لمعالجتها ثم توزيعها على الدول الفقيرة والأكثر احتياجاً، وبذلك
تكون قدمت قطر مثالا آخر على نجاحها في اختراق أكثر المواقف تعقيداً كوسيط موثوق
به، يعمل على ضمان الأمن والسلم الدوليين.
مستثمر
واعد/ واع
قد
أول ما يتبادر إلى الذهن هنا هو العمليات الاستثمارية المالية التي ينشأ عنها
تحقيق أرباح مالية ضخمة، خصوصاً أن قطر لديها واحد من أكبر الصناديق السيادية في
العالم، ولكن بجانب هذا النوع من الاستثمارات، فقطر تستثمر في الأعمال الخيرية أو
ما يمكن أن نطلق عليه "
القوة الناعمة"، من خلال أذرعها الخيرية
والتنموية المتمثلة في مؤسسة قطر الخيرية، ومؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية
المجتمع.
فقطر
تدرك جيداً أهمية القوة الناعمة؛ من خلال العمل على مساعدة الدول الفقيرة
والمحتاجة، وتقديم المساعدات في مجالات: المأوى، والصحة، والتعليم، والاستجابة
الطبية الطارئة، والمعونة الغذائية، والمياه والصرف الصحي، والنظافة، والمساعدات
المالية، والأمن الغذائي، والتمكين المالي، والإسكان والرعاية الاجتماعية. فقطر
الخيرية التي تم تأسيسيها منذ ما يزيد عن ٣٠ عاما، تقدم خدماتها في حوالي ٧٠ دولة
حول العالم عبر ٣٤ مكتباً ميدانياً و٥٠٠ شريك إقليمي، استفاد من خدماتها حوالي ٢٩
مليون شخص.
ومؤسسة
قطر للتربية والعلوم، معنية بالاستثمار في التعليم والبحث العلمي، وتعد المدينة
التعليمية في الدوحة، التي تضم عددا من أرقى جامعات العالمية (جامعة كارنيجي
ميلون، وجامعة ويل كورنيل الطبية، وكلية الخدمة العامة التابعة لجامعة جورجتاون،
وجامعة نورثويسترن، وجامعة تكساس أي أند إم، وجامعة فيرجينيا كومنويلث، وجامعة
جامعة أتش إي سي- باريس، وكلية لندن الجامعية)، والجامعات الوطنية ومنها جامعة
حمد، واحدة من أبرز منجزاتها. وتعد هذ المدينة التعليمية بوابة قطر للعبور نحو
المستقبل، من خلال أعداد إجيال قطرية وعربية، قادرة على المنافسة في مختلف
المجالات من خلال تلقي العلوم على أعلى مستوياتها، حيث تقوم مؤسسة قطر بتقديم عدد
كبير من المنح الدراسية السخية؛ للطلاب والباحثين على حد سواء.
كما
قدمت قطر كدولة صغيرة، نموذجا في التعامل مع الأزمات والكوارث، فرأينا كيف قامت
قطر بإطلاقة حملة "عون وسند" لإغاثة متضرري الزلزال الذي وقع في شباط/
فبراير الماضي بمناطق جنوب تركيا وشمال سوريا، حيث قدمت مساعدات بلغت ٢٥٣ مليون
ريال قطري (٧٠ مليون دولار أمريكي)، وبلغ عدد المستفيدين من المساعدات القطرية في
كل من شمال سوريا وجنوب تركيا مليونين. وبجانب المساعدات الطبية والغذائية العاجلة
التي قدمتها قطر، قدمت قطر منازل جاهزة لمنكوبي الزلزال، وتعهدت قطر بالتبرع بـ١٠ آلاف
منزل جاهز كان قد سبق استخدامها خلال بطولة كأس العالم (المونديال) التي أقيمت في
قطر نهاية العام الماضي.
كما
كانت قطر أحد الدول السباقة التي بادرت في تقديم المساعدة للمغرب عقب الزلزال الذي
ضرب أراضي المغرب في الثامن من أيلول/ سبتمبر الجاري، وكذلك الأمر بالنسبة لليبيا
التي تعرضت لسيول جارفة أودت بحياة الآلاف وتدمير الكثير من المنازل والبنية
التحتية، فهنا قطر نجحت في تقديم نفسها كقوة فاعلة ومستثمر جيد في العلاقات
الإنسانية والقوة الناعمة، وليس فقط في الاستثمارات المالية.
عملاق
للطاقة
يوماً
بعد يوم تعزز قطر مكانتها كمصدر ولاعب رئيس في سوق الطاقة العالمية، من خلال العمل
على زيادة إنتاج وتصدير الغاز المسال، وتوقيع العقود طويلة الأجل، ففي تشرين الثاني/
نوفمبر ٢٠٢٢ وقعت قطر عقد مع شركة النفط الصينية العملاقة "سينوبك"،
لتزويد الأخيرة بأربعة ملايين طن سنوياً من الغاز الطبيعي لمدة ٢٧عاماً، وفي
حزيران/ يونيو من العام الجاري (أي بعد أقل من عام)، أعلنت قطر عن توقيع عقد جديد
مع مؤسسة البترول الوطنية الصينية "سي أن بي سي" لتزويدها بالغاز
الطبيعي المسال لمدة ٢٧ عاماً، في ثاني اتفاقية طويلة الأمد مع الصين. ويعد هذا
التعاون مع الصين ذا دلالة هامة، حيث تعد الصين الاقتصاد الثاني على مستوى العالم،
وأحد الدول الصناعية الكبرى، كما أنها قوة عسكرية وسياسية وازنة، وبالإضافة إلى الصين
تعد قطر مصدرا أساسيا للطاقة لعدد كبير من الدول والاقتصادات الآسيوية الكبيرة مثل
اليابان وكوريا الجنوبية.
كما
مثل الصراع بين روسيا والغرب (بقيادة الولايات المتحدة) في أوكرانيا، فرصة جديدة
للغاز القطري في ظل بحث أوروبا عن بديل للغاز الروسي الذي يمثل نحو ٤٠ في المئة من
ورادت الطاقة إلى أوروبا، وهنا اتجهت الأنظار إلى قطر، لضمان سد العجز المتوقع في
قطاع الطاقة الأوروبي على المدى الطويل، وظهر التهافت الأوروبي على الغاز القطري،
من خلال توقيع ألمانيا صاحبة الاقتصاد الأكبر في أوروبا، عقد لمدة ١٥ عاما يضمن
لها الحصول على مليوني طن من الغاز القطري المسال كل عام، اعتباراً من العام ٢٠٢٦.
ولتلبية
الطلب المتزايد على الغاز ومساهمة منها في تحقيق الاستقرار في أسواق الطاقة
العالمية، أعلنت قطر عن رفع إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال من ٧٧ مليون طن سنوياً
حالياً، إلى١١٠ ملايين طن سنوياً بحلول عام ٢٠٢٦، وذلك من خلال استثمار ما يقرب من
٣٠ مليار دولار أمريكي، في تطوير حقل غاز الشمال، مما سيجعل قطر تزيح أستراليا عن
المركز الثاني كمنتج للغاز الطبيعي، وتعزز من منافستها للولايات المتحدة، مستغلة
ميزة موقعها الجغرافي القريب من آسيا وأوروبا.
والجدير
بالذكر أن خمسا من كبريات شركات الطاقة العالمية (أوروبية/ أمريكية) تعمل مع قطر
على تحقيق ذلك الهدف، ولذا يمكن قراءة تهافت الاقتصادات الكبرى واعتمادها على الغاز
القطري، ومشاركة الشركات الغربية الكبرى، في الاستثمار في قطاع الطاقة القطري، على
أنه وثيقة اعتراف من تلك الدول والكيانات الاقتصادية الكبرى، في قطر وسياستها ومدى
التزامها بتعهداتها تجاه الأسواق الدولية.
الخلاصة
نجحت
قطر خلال العقود الماضية في تأسيس عدد كبير من التحالفات والتوازنات؛ القائمة على
المصالح المشتركة والمتبادلة، فمكنها ذلك من القدرة على الجمع بين الأقطاب
المتنافرة والمتضادة، وفي ظل الموثوقية العالية التي تتمتع بها قطر مع القوي
الدولية والإقليمية الفاعلة، فصارت على الرغم من صغرها هي الوجهة التي تلجأ إليها
تلك القوي لحل الخلافات القائمة، وخير مثال على ذلك الوساطة القطرية بين الولايات
المتحدة وإيران.
كما
نجحت قطر في إدارة علاقاتها مع القوى العظمى المتصارعة، بمنتهى المهارة، ففي ظل
حالة الصراع المتصاعدة على قيادة العالم بين الولايات المتحدة والصين، نرى قطر
تربطها علاقات اقتصادية استراتيجية قوية بالصين من خلال عقود واتفاقيات في مجال
الطاقة تمتد لأكثر من ربع قرن، وفي نفس الوقت تقوم الولايات المتحدة بإعلان قطر
حليفا استراتيجيا من خارج دول حلف الناتو، كما يستمر استضافة قطر لأكبر القواعد
العسكرية الأمريكية في العالم، دون أن يتغير شيء.
وحتى
في ظل الصراع بين روسيا والغرب، كانت قطر حاضرة بقوة كطرف يمكن الاعتماد عليه، من
خلال تمويلها لاتفاق نقل وتصدير الحبوب من روسيا عبر تركيا لصالح الدول الفقيرة
والأكثر احتياجاً.