بورتريه

رفاعة الطهطاوي.. رائد التنوير والترجمة ونهضة مصر

عربي21
أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر.

لقب برائد التنوير في العصر الحديث لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث عبر الترجمة وغيرها من الأدوات.

لم يكن مجرد ناقل تقليدي عن ثقافات الآخرين وإنما استوعب وهضم كل جديد وغريب وجدّ في نقله مصلحة لبلاده وللغة العربية.

تقول روايات إن نسب رفاعة الطهطاوي، المولود في عام 1801 بمدينة طهطا إحدى مدن محافظة سوهاج بصعيد مصر، ينتهي بمحمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي ابن أبي طالب.

نشأ في عائلة من القضاة ورجال الدين فحفظ القرآن الكريم، وفرضت الظروف على والده التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المقام في القاهرة. وبعد وفاة والده وجد في بيوت أخواله اهتماما كبيرا حيث كانت زاخرة بالشيوخ والعلماء فحفظ على أيديهم المتون التي كانت متداولة في هذا العصر، وقرأ عليهم شيئا من الفقه والنحو.



التحق الطهطاوي وهو في السادسة عشرة من عمره بالأزهر في عام 1817 وشملت دراسته الحديث والفقه والتفسير والنحو والصرف، وغير ذلك. ومن حسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار الذي كان واسع الأفق، كثير الأسفار، كثير القراءات فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة.

بعد أن تخرج رفاعة في الأزهر خدم أماما في الجيش النظامي الجديد عام 1824.

وكانت إحدى المحطات المهمة في حياته سفره عام 1826 إلى فرنسا ضمن بعثة طلبية أرسلها محمد علي باشا حاكم مصر، على متن السفينة الحربية الفرنسية "لاترويت" لدراسة اللغات والعلوم الأوروبية الحديثة.

اجتهد ودرس اللغة الفرنسية وبدأ بممارسة العلم، وبعد خمس سنوات حافلة أدى رفاعة امتحان الترجمة، وقدم مخطوطة كتابه الذي نال بعد ذلك شهرة واسعة وكان عنوانه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، وهو الكتاب الأشهر بين كتبه قاطبة.

عاد رفاعة إلى مصر بكل حماس ورغبة في التعلم والتعليم فاشتغل بالترجمة في مدرسة الطب، ثم عمل على تطوير مناهج الدراسة في العلوم الطبيعية.

افتتحت في عام 1835 "مدرسة المترجمين" التي صارت فيما بعد "مدرسة الألسن" وعين رفاعة مديرا لها، وفي هذه الفترة تجلى المشروع الثقافي الكبير لرفاعة الطهطاوي حيث وضع الأساس لحركة النهضة المصرية.

كان رفاعة أصيلا ومعاصرا من دون إثارة الخلافات، ففي الوقت الذي ترجم فيه نفائس الفلسفة والتاريخ الغربي ونصوص العلم الأوروبي المتقدم، نجده يجمع الآثار المصرية القديمة ويستصدر أمرا لصيانتها ومنعها من التهريب والضياع.

وظل جهد رفاعة مقسما بين الترجمة والتخطيط والإشراف على التعليم والصحافة، فأنشأ أقساما متخصصة للترجمة، وأنشأ "مدرسة المحاسبة" لدراسة الاقتصاد و"مدرسة الإدارة" لدراسة العلوم السياسية.

واصل سياسة التحديث فأصدر قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربية، وإصدار جريدة "الوقائع" المصرية بالعربية بدلا من التركية، إلى جانب عشرين كتابا من ترجمته، وعشرات غيرها أشرف على ترجمتها.



لكن لم يكتب لمشروعه أن يكتمل فقد واجه معضلة كبيرة حين تولى عباس باشا حكم مصر الذي أغلق "مدرسة الألسن" وأوقف أعمال الترجمة، وقصر توزيع "الوقائع" على كبار رجال الدولة من الأتراك، ونفى رفاعة إلى السودان عام 1850.

لم يستسلم رفاعة لقرار النفي فواصل الترجمة من الأدب الفرنسي، وجاهد للرجوع إلى مصر وهو الأمر الذي تحقق بعد موت عباس باشا وولاية سعيد باشا.

وعاد إلى مصر بعد أربعة أعوام من المنفى فأنشأ مكاتب محو الأمية لنشر العلم بين الناس وعاود عمله في الترجمة ودفع مطبعة بولاق لنشر أمهات كتب التراث العربي .

ومرة أخرى توقف مشروعه النهضوي بعد أن أغلق سعيد باشا المدارس وفصل رفاعة عن عمله عام 1861.

وبقي رفاعة يراوح مكانه حتى تولي الخديوي إسماعيل الحكم بعد وفاة سعيد باشا عام 1863، فعاود العمل مشرفا على مكاتب التعليم، ويرأس إدارة الترجمة، ويصدر أول مجلة ثقافية وهي "روضة المدارس" ويكتب في التاريخ وفي التربية والتعليم والتنشئة وفي السيرة النبوية حتى وفاته عام 1873.

يعد الطهطاوي أحد رواد الفكر التنويري في مصر بعد فترة من الاضمحلال والجمود الفكري التي مرت بها البلاد بشكل خاص في العصر المملوكي وأواخر العصر العثماني.

ولم يقف دور الطهطاوي على الترجمة والنقل فقط للعلوم والفنون الفكرية المختلفة، وإنما كانت له العديد من الإسهامات الفكرية والإبداعية والأدبية أيضا .

زاد ما ترجمه الطهطاوي وتلاميذه عن ألفي كتاب خلال أربعين عاما مرجحين كفة القاهرة على الأستانة.

ولعل الطهطاوي هو أول عربي التفت في العصر الحديث إلى المنهج الاجتماعي في كتابة التاريخ، وهو أن التاريخ ليس تاريخ الملوك والحكام بل هو تاريخ الحضارة بكافة منجزاتها وظواهره وأوجهها.

وعلى الرغم من تلك المكانة الرفيعة التي بلغها رفاعة فإننا نجد عدم احتفاء به من قبل المستشرقين الفرنسيين وحتى من قبل بعض الباحثين العرب.

وكان للطهطاوي دور في الإسهام في النهضة الفكرية التي عاشتها مصر في عهد محمد علي باشا والذي يعتبره البعض باني مصر الحديثة، فقد كان الطهطاوي من أهم الدعائم الفكرية التي قامت عليها النهضة في تلك السنوات العامرة بكافة العلوم.