قضايا وآراء

إلى أين يتجه الصراع بين اتحاد الشغل والرئيس التونسي؟

استشعر اتحاد الشغل خطر الاستهداف بعدما دعم سابقا إجراءات سعيد- فيسبوك
بعد أن نجح الرئيس -ولو مؤقتا- في تحييد أغلب الأجسام الوسيطة أو وضع اليد عليها محوّلا إياها إلى ملحقات وظيفية في خدمة مشروعه السياسي، وبعد أن همّش حتى مكونات "الموالاة النقدية" ورفض تشريكها في صناعة القرار، يبدو أن تمرير إملاءات صندوق النقد الدولي قد وضعت الرئيس أمام حتمية الدخول في صراع مفتوح مع المركزية النقابية، رغم دورها المعلوم في التمهيد لـ"تصحيح المسار" والدفاع عنه وشرعنته أمام الرأي العام في الداخل والخارج.

كما يبدو أن زمن "المعاملة التفضيلية" التي حظي بها الاتحاد من النواة الصلبة للحكم يقترب من النهاية، فالرئيس الذي كانت ملفات محاربة الفساد واستعادة هيبة الدولة وضرب السلطات الموازية أهم عناصر جملته السياسية قبل 25 تموز/ يوليو 2021 وبعده، لم يتعرّض يوما إلى فساد النقابات ولا إلى تحولها بعد الثورة إلى دولة داخل الدولة وسلطة فوق السلطات جميعا، بل اعتبرها شريكا اجتماعيا وطنيا، مستثنيا إياها بذلك -مثل القوات الحاملة للسلاح والديوانة واتحاد الأعراف والهيئة المستقلة للاتصال السمعي والبصري وأغلب منظمات المجتمع المدني- من خطاب الشيطنة الموجه أساسا ضد الأحزاب والقضاة واتحاد الفلاحين، وكل من رفض التأييد اللا مشروط لإجراءات الرئيس وخارطة طريقه.

زمن "المعاملة التفضيلية" التي حظي بها الاتحاد من النواة الصلبة للحكم يقترب من النهاية، فالرئيس الذي كانت ملفات محاربة الفساد واستعادة هيبة الدولة وضرب السلطات الموازية أهم عناصر جملته السياسية قبل 25 تموز/ يوليو 2021 وبعده، لم يتعرّض يوما إلى فساد النقابات ولا إلى تحولها بعد الثورة إلى دولة داخل الدولة وسلطة فوق السلطات جميعا، بل اعتبرها شريكا اجتماعيا وطنيا

ورغم إصرار الرئيس -منذ إعلان إجراءاته- على الإدارة المنفردة لـ"حالة الاستثناء" وتحديد مخرجاتها لإعادة هندسة المشهد التونسي في جميع مستوياته، ورغم تهميشه لكل مبادرات الاتحاد ورفضه تشريك حلفائه بصفاتهم الحزبية (الأحزاب القومية واليسارية، خاصة حركة الشعب والوطد) في كل محطات خارطة الطريق، فإن الحزام السياسي والنقابي والجمعياتي للرئيس -بقيادة المركزية النقابية- لم ينفضّ من حوله ودعم مساره "الإصلاحي" برساميله البشرية والمؤسساتية، حتى بعد أن تبيّن له أنّ شعبية "تصحيح المسار" وهْم، وأنّ إمكانية قبول الرئيس بتعديل خريطة طريقه وقبول منطق "الشراكة" أمر محال.

وإذا ما كانت الأحزاب الأيديولوجية المساندة للرئيس لا تجد حرجا في أداء دور الأجسام الوظيفية الملحقة بقصر قرطاج، فإن الأمر يبدو مختلفا بالنسبة للمركزية النقابية. ونحن لا نعني بالاختلاف أن الاتحاد يرفض أن يكون جسما وظيفيا في خدمة أي سلطة استبدادية (كما كان شأنه زمن المخلوع وما أدّاه من دور معروف عبر "الشُّعب المهنية" ومقاعد "مجلس المستشارين") أو في خدمة أي مشروع انقلابي (كما هو الشأن زمن الترويكا ودوره المعروف فيما سُمّي بالحوار الوطني الذي أعاد ورثة المخلوع وحلفاءهم في اليسار الثقافي إلى واجهة السلطة عبر حركة نداء تونس)، ولكننا نقصد أن كلفة القبول بالدور الوظيفي -أي القبول بتمرير الإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد وغيره- ستكون هذه المرة انتهاء الحاجة إليه أو فقدانه علة وجوده ذاتها، وخسارته لكل الشروط التي تؤهله لدور "الشريك الاجتماعي" مستقبلا.

بعيدا عن الجُمل الديبلوماسية التي تحكمها الحسابات السياسية حتى لدى المعارضة الجذرية للانقلاب، وبعيدا عن الادعاءات الذاتية للقيادات النقابية، فإن اتحاد الشغل كان دائما في خندق القوى الانقلابية منذ الأيام الأولى للمخلوع. فالديمقراطية والنظام البرلماني المعدّل والاحتكام إلى الإرادة الشعبية تعني بالضرورة وجود "الإسلاميين" في مركز السلطة، وهو أمر لا يمكن أن تقبل به الأيديولوجيات المهيمنة على العمل النقابي (خاصة القوى القومية الناصرية والبعثية والقوى اليسارية الممثلة في الوطد وغيره) والتي ما زالت تبني مواقفها -كما فعلت في عهد المخلوع- على أساس التناقض الرئيس مع الرجعية الدينية (حركة النهضة) والتناقض الثانوي مع الرجعية البرجوازية (ورثة التجمع ومَن وراءهم في المركّب الجهوي- المالي- الأمني).

العمى الأيديولوجي جعل الاتحاد يذهل عن حقيقة واضحة وضوح الشمس، ألا وهي أن التحريض على ضرب الأحزاب وشيطنة الحياة النيابية وجميع الأجسام الوسيطة (ثم السكوت عن المسار الانقلابي برمته) لن يضمن له أي "تمييز إيجابي" أو أية معاملة تفضيلية، في ظل نظام لا يتحرك بمنطق الشراكة بل بمنطق البديل، أو ما يسميه أنصاره بـ"التأسيس الثوري الجديد"

ولذلك وجدنا الاتحاد وراء إسقاط تجربة الترويكا، وحليفا استراتيجيا لحركة نداء تونس ولكل القوى الانقلابية التي نادت بتدخل القوى الأجنبية أو حتى العسكر لإخراج النهضة من الحكم. كما وجدنا المركزية النقابية تسند كل الدعوات لإسقاط البرلمان الشرعي وتفعيل الفصل 80 من الدستور، ثم وجدناها أول المباركين للانقلاب والرافضين للعودة إلى دستور 2014. ولم تتجاوز كل مبادراتها للإنقاذ -بما في ذلك مبادرتها الحالية- مرجعية 25 تموز/ يوليو، بل لم تتجرأ إلى هذه اللحظة على تشريك الأحزاب فيها كي لا تُغضب الرئيس، وإن كانت تُلمّح على استحياء إلى إمكانية الانفتاح على الأحزاب "الوطنية"، أي تلك التي لا تعتبر 25 تموز/ يوليو انقلابا.

بصرف النظر عن ادعاءاته الذاتية ومزايداته ومبادراته التي يحكمها مترسب أيديولوجي أكثر مما يحكمها منطق عقلاني أو براغماتي، كان الاتحاد يدرك جيدا أن إعداد الميزانية وفرض "الإصلاحات الاقتصادية" بمنطق المراسيم -أي بعيدا عن أي رقابة نيابية وإعلامية ومدنية- هو الغاية الحقيقية من "تصحيح المسار"، كما كان يدرك أنّ تلك "الإصلاحات" لا يمكن أن تنفصل (في منطق الجهات المانحة/ الناهبة المتصهينة) عن فرض التطبيع (أو ما يسمى بصفقة القرن التي يروّج لها رعاة النظام التونسي وحلفاؤه في "محور الثورات المضادة"). ولكنّ العمى الأيديولوجي جعل الاتحاد يذهل عن حقيقة واضحة وضوح الشمس، ألا وهي أن التحريض على ضرب الأحزاب وشيطنة الحياة النيابية وجميع الأجسام الوسيطة (ثم السكوت عن المسار الانقلابي برمته) لن يضمن له أي "تمييز إيجابي" أو أية معاملة تفضيلية، في ظل نظام لا يتحرك بمنطق الشراكة بل بمنطق البديل، أو ما يسميه أنصاره بـ"التأسيس الثوري الجديد".

لم يعد أمامه إلا خياران لا ثالث لهما: إعلان المعارضة الجذرية لمسار 25 تموز/ يوليو واعتباره انقلابا على الشرعية (وهو أمر مستبعد بحكم سيطرة الوطد والقوميين ووكلاء المنظومة القديمة على المركزية النقابية، وكذلك بحكم غياب ثقافة النقد الذاتي)، أو أن يقبل بالعودة إلى مربع المناشدة ورفع التحديات وتثمين قرارات الزعيم كما كان يفعل في عهد المخلوع. ونحن نرجح أن تعتمد المركزية هذا الخيار الثاني

إن السلطة القائمة على المراسيم والأوامر الرئاسية -والتي لا يمكنها أن تستمر إلا بالخضوع المطلق لإملاءات صندوق النقد- لا تقبل القسمة ولا المشاركة ولا الاعتراض أو حتى "المساندة النقدية"، فإما أن يكون الاتحاد مع سلطة الأمر الواقع في جميع خياراتها بلا أي شرط أو احتراز (أي يقبل برفع الدعم وبيع المنشآت العمومية وتقليص المصاريف العمومية والتطبيع ويبرر ذلك لقواعده كما يفعل عادة، أي بتحميل "العشرية السوداء" وخصوصا حركة النهضة -لا الرئيس- مسؤولية الأوضاع الكارثية الحالية) وإما أن تستهدفه السلطة -عبر أذرعها الأمنية والإعلامية- بكل الطرق الممكنة حتى يخرج من مجال التأثير ويتحول إلى "ملف قضائي" مثل غيره من "أعداء الدولة والشعب".

ورغم أن الاتحاد ما زال "يحلم" بدور الشريك الاجتماعي (أو قوة الضغط) في مسار 25 تموز/ يوليو، فإنه بعد أن ساهم في تصحير الحياة السياسية في تونس وضرب المؤسسات الدستورية وتأزم الوضع الاقتصادي لم يعد أمامه إلا خياران لا ثالث لهما: إعلان المعارضة الجذرية لمسار 25 تموز/ يوليو واعتباره انقلابا على الشرعية (وهو أمر مستبعد بحكم سيطرة الوطد والقوميين ووكلاء المنظومة القديمة على المركزية النقابية، وكذلك بحكم غياب ثقافة النقد الذاتي)، أو أن يقبل بالعودة إلى مربع المناشدة ورفع التحديات وتثمين قرارات الزعيم كما كان يفعل في عهد المخلوع. ونحن نرجح أن تعتمد المركزية هذا الخيار الثاني رغم كل العنتريات والمزايدات التي لا هدف لها إلا تحسين مواقع التفاوض، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من "المصالح العليا" للبيروقراطية النقابية وشبكاتها الزبونية داخل مؤسسات الدولة المهددة بإعلان الإفلاس رسميا.

twitter.com/adel_arabi21