كتاب عربي 21

أبو تريكة نموذجاً (مقالات كروية- 2)

لم يتنازل أبو تريكة عن معتقداته أو مبادئه من أجل كرة القدم- جيتي
(1)

لا تسأل الفقراء عن فقرهم، اسألهم عن صبرهم وجهدهم وشكرهم، فإذا نضجوا اسألهم عمن أفقرهم، وإذا غنموا اسألهم عن حق بقية الفقراء عليهم.

تخبرنا الإحصائيات في أنحاء العالم أن احتراف كرة القدم في مقدمة أسباب التحول من الفقر إلى الغنى، خاصة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية. هكذا كان بيليه، وهكذا كان جارينشيا، وهكذا كان أوزيبيو، وهكذا كان مارادونا، وهكذا كان محمد أبو تريكة..

آلاف اللاعبين تحولوا من الفقر إلى الغنى، بعضهم صبر وغنم وشكر، وبعضهم غنم ونسي واستكبر.

العبرة ليست في فقر المال وفقط، ففقر المال يُشقي ويُتعب ولا يعيب، العيب في فقر الروح وفقر الشهامة وفقر الأخلاق.
لا تستهويني الألقاب التي أطلقها المشجعون على أبو تريكة من عيّنة "الماجيكو" و"الأسطورة"، يعجبني لقب "حبيب القلوب"، لأنني أثق في أن أبو تريكة عاش بقلبه أكثر مما عاش بقدمه، لهذا أعتبره "بطلا استثنائيا" في تاريخ كرة القدم المصري والعربي

(2)

لا أحب المداخل الوعظية، لكنها الأنسب لتناول شخصية محمد أبو تريكة الإنسان ولاعب كرة القدم المصري السابق، لم أكن متعصبا للأهلي في أي يوم، ولم أشجعه إلا في المباريات القارية والدولية، ولا تستهويني الألقاب التي أطلقها المشجعون على أبو تريكة من عيّنة "الماجيكو" و"الأسطورة"، يعجبني لقب "حبيب القلوب"، لأنني أثق في أن أبو تريكة عاش بقلبه أكثر مما عاش بقدمه، لهذا أعتبره "بطلا استثنائيا" في تاريخ كرة القدم المصري والعربي، وهذا ما أحاول بقدر معلوماتي البسيطة في المتابعة أن أتناوله في هذا المقال.

(3)

تبدو المسافة بين "كرة القدم" و"الثقافة" مسافة بعيدة، لذلك إذا سألنا أنفسنا عن لاعب كرة قدم عربي مثقف، سنقع في حيرة كبيرة. لدينا بالطبع عدد كبير من اللاعبين المتعلمين والحاصلين على شهادات عليا، لكن صفة "اللاعب المثقف" تورطنا في معنى مصطلح "المثقف": هل هو المتعلم والحاصل على شهادات جامعية؟ أم هو صاحب الدور الاجتماعي والموقف السياسي؟
تبدو المسافة بين "كرة القدم" و"الثقافة" مسافة بعيدة، لذلك إذا سألنا أنفسنا عن لاعب كرة قدم عربي مثقف، سنقع في حيرة كبيرة. لدينا بالطبع عدد كبير من اللاعبين المتعلمين والحاصلين على شهادات عليا، لكن صفة "اللاعب المثقف" تورطنا في معنى مصطلح "المثقف": هل هو المتعلم والحاصل على شهادات جامعية؟ أم هو صاحب الدور الاجتماعي والموقف السياسي؟

خارج الملاعب العربية توجد نماذج مؤثرة للعلاقة بين الثقافة وكرة القدم، سواء على مستوى ممارسة المثقفين لكرة القدم أو تشجيعهم لها واهتمامهم بها، وكذلك على مستوى اهتمام اللاعبين بالثقافة وممارستهم لها، وتعريف الثقافة كما أقصدها في هذا المقال يرتبط بمفهوم المفكر الإيطالي أنطونيو جرامشي صاحب اصطلاح "المثقف العضوي"، أي المثقف الذي يكون بمثابة "عضو فاعل" في "الجسد الاجتماعي". وقد كان جرامشي من مناصري كرة القدم ويعتبرها "رياضة الود" و"المنافسة الحميمة في فضاء حر"، فهي حسب رأيه تساعد على نشوء وتمكين علاقات الصداقة بين الأفراد في الملعب وخارجه، وبرغم أجواء المنافسة والرغبة في الانتصار على الآخر، إلا أن المشاعر السوية تظل تحتفظ بالصداقة بعد انتهاء المساحة الزمنية المخصصة للتنافس في مباريات لا تبتلع الإنسان وحياته وعلاقاته..

كان جرامشي مشجعا ومادحا لكرة القدم، لكنه لم يمارسها بجدية كما فعل جاك دريدا وألبير كامو وسقراطيس ونور الشريف.

(4)

تعريف جرامشي للمثقف يورطنا في البحث عن علاقة اللاعبين بالقضايا الفكرية والاجتماعية والسياسية، كما يورطهم في سؤال علاقة اللاعب بالسلطة في بلاده..

قبل أسابيع أعلن اللاعب البرازيلي نيمار عن دعمه للرئيس بولسونارو في انتخابات التجديد أمام المرشح والرئيس الأسبق لولا دا سيلفا، وتعجبت من مبادرة اللاعب، لأنني لم أعرف عنه أي علاقة بالسياسة من قبل، ولأننا نعرف تأثير دعم نجوم اللعبة على ملايين الجماهير فقد انشغلت الصحافة بتصريح الدعم، الذي حرص المرشح الرئاسي المنافس على توضيحه بأنه "رد جميل" للرئيس الذي أصدر قرارا بإعفاء نيمار من ديون الضرائب بعد مطاردات قضائية اتهمته بالتهرب الضريبي في البرازيل وفي أوروبا أيضا.
موقف نيمار من السياسة هو النموذج الذي تعودنا عليه في ملاعبنا، مجاملة السلطة التي تغدق على اللاعبين، فالمنفعة متبادلة، لذلك يندر أن نجد لاعبا في صفوف المعارضة عكس الاتجاه الرسمي للحكم في بلاده. ولعل استخدام نظام مبارك لنجوم كرة القدم كمنابر دعم، وضح جليا في الأيام الأولى لثورة يناير، وكان أبو تريكة واحدا من فئة قليلة نأت بنفسها

(5)

موقف نيمار من السياسة هو النموذج الذي تعودنا عليه في ملاعبنا، مجاملة السلطة التي تغدق على اللاعبين، فالمنفعة متبادلة، لذلك يندر أن نجد لاعبا في صفوف المعارضة عكس الاتجاه الرسمي للحكم في بلاده. ولعل استخدام نظام مبارك لنجوم كرة القدم كمنابر دعم، وضح جليا في الأيام الأولى لثورة يناير، وكان أبو تريكة واحدا من فئة قليلة نأت بنفسها عن "المجاملات الخطرة" والقبول بلعبة "التوظيف السياسي".

وأعتقد أن ذلك الموقف كان بداية "هجمة مرتدة" لحصار ثورة النجم "الخارج عن طاعة النظام"، خاصة بعد أن اتخذ موقفا أكثر وضوحا بعد الأحداث الدموية في ملعب بورسعيد، والتي راح ضحيتها 72 مشجعا مسالما في ظروف لا تزال غامضة ومريبة حتى اليوم..

كان موقف أبو تريكة مؤثراً ومشجعا لنجوم آخرين في إدانة الدم والاحتجاج على ما حدث، والمطالبة بتحقيقات جدية تكشف الأسباب والفاعلين والمستفيدين.

(6)

قبل ثورة يناير كانت مواقف أبو تريكة في حدود معسكري الفريق والمنتخب، حيث كان يحرص على عدم التعارض بين التدريبات ومواعيد الصلاة، وعندما استيقظ مرة لصلاة الفجر في أحد معسكرات المنتخب في أفريقيا، تبعه عدد من زملائه اللاعبين، فاعترض المدرب حينها (حسن شحاتة) على استيقاظ اللاعبين فجرا لأن ذلك سيؤثر على تركيزهم في الملعب.

وبكل هدوء أعلن أبو تريكة أن منعه من صلاة الفجر يعني انسحابه من المشاركة مع المنتخب والعودة إلى مصر، ودارت مناقشة بين اللاعب والمدرب بهدوء، استطاع خلالها أبو تريكة أن يقنع المدرب بفائدة الصلاة من الناحيتين الرياضية والنفسية، فذهب شحاتة للوضوء وتم ترتيب مواعيد النوم واليقظة بما يسمح بأداء أفراد البعثة من المسلمين صلاة الفروض جماعة..

(7)

لا أنظر إلى هذه القصة من منظور ديني متعصب، لكنني أتناولها بطريقة جرامشي من خلال الانتصار لما تعتقد فيه، فالعقيدة عند الإنسان ليست دينية وفقط، لكنها حزمة شاملة من المعتقدات التي تعبر الأساس في أي موقف أخلاقي أو وظيفي يتخذه الإنسان، ثم بعد ذلك يكشف لنا الزمن عن قوة الموقف أو ضعفه.. عن استمراره بثبات وتطويره أم الانقلاب عليه والانحراف نحو الضد.

ويحضرني هنا مواقف عديدة على المستوى العالمي: قريبا تابعنا موقف اللاعب الألماني/ التركي مسعود أوزيل تجاه قضايا المهاجرين وتنميط صورة المسلمين في "نموذج الإرهابي"، كما تابعنا موقف السنغالي إدريسا جي عندما رفض اللعب مرتديا شارة دعم المثليين، والجزائري رياض محرز عندما رفع العلم الفلسطيني في ختام مسابقة الدوري الإنجليزي بعد فوز فريقه مانشيستر سيتي بالبطولة.

وهذه مواقف تذكرنا بالموقف الشهير لمحمد أبو تريكة عندما كشف عن شعار "تعاطفا مع غزة" بعد إحرازه أحد الأهداف في مباراة أفريقية، ويومها قام فيفا بثورة غضب وبادر بوقف اللاعب لأنه يخلط الرياضة بالسياسة. وثار الجدال ليخدم قضية صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة العدوان الصهيوني، واهتم الرأي العام الشعبي في العالم بالسؤال عن العدوان وأسبابه (لأن الشعار كان مكتوبا باللغتين العربية والإنجليزية)، وتم تناول العدوان من الناحية الإنسانية باعتباره عدوانا ضد سكان مدنيين وليس صراعا عسكريا. وبالتالي فإن الشعار لم يكن سياسيا بل إنسانيا، وهذا ما أكسبه زخما كبيرا أحرج إسرائيل ومن يدعمها.

أبو تريكة لم يكن سياسيا في يوم من الأيام، ولم يرغب في الاقتراب من السياسة، لكنه كان ولا يزال قريبا من الحياة باندماج صادق، فالفتى الذي تحدى الفقر في طفولته وعرف البهجة من خلال كرة القدم، لم تخطفه الشهرة من أقرانه الفقراء، وظل وفيا لقيمتين كبيرتين في حياته غير كرة القدم: "الناس" و"الأخلاق التي تربى عليها"

أما المواقف البعيدة فيتصدرها موقف المدافع الألماني الشهير "بول برايتنر" الذي تمرد ضد المواقف الغربية العامة، وأعلن عن دعمه لماو تسي تونج وجيفارا، حتى أطلقت عليه الصحافة لقب "ريد بول" و"المتمرد الشيوعي"، وهي قصة متقلبة تستحق مقالا وافيا للتعرف على موقف برايتنر وتأثيراته المزلزلة واستدراجه المخطط للانقلاب على موقفه. وكذلك موقف لاعب الوسط البرازيلي سقراطيس الذي مارس السياسة والثقافة باعتبارهما الأساس لنداء التحول الديمقراطي ضد الفاشية والحكم العسكري في البرازيل، حتى أن سقراطيس كان يعتبر كرة القدم مجرد وسيلة للتعبير عن دعوته للديمقراطية ونصرة الفقراء وطبقة العمال، وهو الموقف الذي يستحق أيضا التعريف به بوضوح، لنوفر المساحة المتبقية من المقال لموقف أبو تريكة والثمن الذي دفعه.

(8)

في تقديري أن أبو تريكة لم يكن سياسيا في يوم من الأيام، ولم يرغب في الاقتراب من السياسة، لكنه كان ولا يزال قريبا من الحياة باندماج صادق، فالفتى الذي تحدى الفقر في طفولته وعرف البهجة من خلال كرة القدم، لم تخطفه الشهرة من أقرانه الفقراء، وظل وفيا لقيمتين كبيرتين في حياته غير كرة القدم: "الناس" و"الأخلاق التي تربى عليها". لذلك لم يقايض أبو تريكة دم المشجعين برضا السلطة، ولم يجزع أو يتراجع عندما طاردته السلطة وصادرت أمواله بحجة دعمه للإرهاب، ولما خرج اختياريا إلى منفاه لم ينقلب على "مصر الوطن"، ولم يظهر شماتة أو عداء أو نكاية في "مصر السلطة"، ظل محافظا على خجله وخلقه واحترامه لنفسه وقيمه، وعندما يصادف موقفا يتعارض مع معتقداته يتحول الخجول المهذب إلى مقاتل شرس.

وقد سنحت الفرصة لاختبار عقيدة أبو تريكة من خلال عمله كمحلل رياضي في الإعلام، وبصرف النظر عن قضايا حرية الرأي والتناول الغربي لقضايا حقوق الإنسان والأقليات وما يسمى "مجتمع الميم"، لم يهاجم أبو تريكة أحدا في بيته، ولم يفرض عقيدته قسرا على الآخرين، لكنه رفض أن يشارك أو يبدي موافقة لما يخالف معتقداته وأخلاقه، فكان يرفض التعليق على مباريات الدوري الأوروبي المخصصة لدعم المثليين، وخاض معركة كبيرة ومؤثرة ومحترمة أثناء الإعداد لاستضافة مونديال قطر، انتهت بتغليب القيم الإسلامية على النموذج الغربي، من دون الدعوة لعنف أو تعصب.. لم أفرض عليك سلوكا في بيتك فلا تأتي إلى بيتي وتفرض عليّ ما لا أحب.

عظمة سلوك أبو تريكة في مثل هذه القضايا أنه خاضها باقتناع ذاتي نابع من معتقداته، ولم يبتغ منها شهرة ولا مالا ولا بطولة ولا استجابة لرغبة مريضة في الصدام مع الآخر.. فقط احترمني واحترم عقائدي.. فقط لا تتعامل بازدواجية فتترك من يرفع علم إسرائيل وتعاقب من يرفع علم فلسطين..

البطل لا يفرط في معتقداته ولا يتنازل عن أخلاقه مهما كانت فداحة الثمن الذي يدفعه. وما زالت في حياة أبو تريكة قصة طويلة، أتمنى أن تسمح له الأيام بروايتها كاملة، وأن تسمح لنا بلقاء لتقديمها إلى الجمهور الواسع لحبيب القلوب

هكذا أدت المقدمات إلى النتائج التي نعرفها جميعا: مواطن صالح تحت حكم نظام فاسد وظالم وتابع؛ إلى تشهير إعلامي، وطرد من ملعب الوطن، وحياة في المنفى، وملاحقة أمنية (باسم القانون)..

لكن البطل لا يفرط في معتقداته ولا يتنازل عن أخلاقه مهما كانت فداحة الثمن الذي يدفعه. وما زالت في حياة أبو تريكة قصة طويلة، أتمنى أن تسمح له الأيام بروايتها كاملة، وأن تسمح لنا بلقاء لتقديمها إلى الجمهور الواسع لحبيب القلوب..

محبة للإنسان محمد أبو تريكة كما كانت محبة الجماهير للاعب "حبيب القلوب".

tamahi@hotmail.com