كتاب عربي 21

السعودية وإيران.. "موسم الرياض" في مواجهة "مهسا أميني"

1300x600

السعودية وإيران قوتان إقليميتان في المشرق العربي أو بالتعبير الإفرنجي في الشرق الأوسط. وسائل القوة عند كلا المكوّنين تختلف اختلافا جوهريا فالسعودية قلب العالم السني وموطن الحرمين وهي من أكبر مصدري النفط في العالم. أما إيران فتتميز بنفوذها السياسي القومي المغلف بالبعد الديني وقدرتها على احتواء أكبر العواصم العربية من بغداد مرورا ببيروت وصنعاء ودمشق وهو ما حوّلها إلى لاعب محوري في المشرق العربي.

اليوم يواجه النظام الإيراني انتفاضة شعبية قوية بعد مقتل الشابة الإيرانية ذات الأصول الكردية "مهسا أميني" على يد الشرطة الدينية وهو ما أثار في الغرب "دكاكين حقوق الإنسان" للدفاع عن المرأة الإيرانية. هذا الحدث أربك السلطات الدينية في طهران بعد موجة الاعتقالات وعدد القتلى من الجانبين وخوف النظام من انفلات الوضع وخروجه عن السيطرة. في الجهة المقابلة تنطلق في الرياض عاصمة أهل السنة مواسم الترفيه التي رأى فبها الحاكم وسيلة مناسبة لامتصاص غضب الشباب ومنع تشكّل موجات تطالب بالحقوق والحريات وترفض الاستبداد.

 

إيران وبدايات النهاية

 

يمثل موقف الإعلام الغربي من الأحداث المشرقية بوصلة هامة لفهم طبيعة الحركة وتقييمها حيث تنشط الأذرع الإعلامية الغربية في دعم الحركة الاحتجاجية الإيرانية متظاهرة كالعادة بدعم حقوق المرأة وحقوق الإنسان. في المقابل تصمت عن نفس الحالة القمعية التي تسود المملكة السعودية وبقية الدكتاتوريات العربية ولا تندد بها إلا نادرا في سياق تصفية حسابات دبلوماسية ظرفية لا تفتأ أن تتبخر سريعا.

 

دعمُ الإعلام الغربي لاحتجاجات إيران يحقق للغرب مكاسب عديد : فهو من جهة أولى يعزز مكانته كمدافع عن حقوق المرأة وعن حقوق الإنسان ويرسخ صورة الغرب واحة للديمقراطية والحرية مقابل شرق همجي متوحش. ثم هو يوهم الجماهير بأن بينه وبين إيران عداوة مثلما يظهر في الملف النووي الذي يكاد يفوق نصف قرن من المفاوضات والتهديدات والمزايدات في الوقت الذي قُصف فيه مفاعل تموز العراقي دون تحذير وفي ظرف ساعات. ثالثا يوفر الهجوم الغربي للنظام الإيراني ذريعة قوية لقمع الاحتجاجات وتخوين المحتجين وتصويرهم عملاء غربيين معادين للإسلام والدين والثورة الإسلامية.

 

يعلم الجميع وعلى رأسهم الغرب نفسه بأنها لم تكن يوما "ثورة إسلامية" بل كانت ثورة فارسية بلبوس شيعي صُنعت خصيصا للتخلص من نظام الشاه ولتدمير الحواضر الإسلامية أو بتعبير أدق الحواضر السنية في الشام والخليج واليمن تحديدا ومنع الوحدة الإسلامية التي قد تهدد الكيان الاستيطاني الناشئ في فلسطين.

نظام الملالي يقمع الإيرانيين ويوهمهم بالانتصارات الإلهية عبر المجازر والمذابح التي يشرف عليها في اليمن والعراق وسوريا وعبر زعزعة أمن جيرانه والتوغل داخل أنظمتهم السياسية. لكنه تمكن في المقابل من صناعة طبقات اجتماعية وعقائدية تدين له بالولاء العقائدي مستفيدا من غباء الأنظمة العربية السنية وعلى رأسها السعودية

صحيح أن المشروع النووي الإيراني قد وصل إلى نقطة اللاعودة بل ها هي إيران تسلح الجيش الروسي بالمسيرات على مرأى ومسمع من القوى العظمى في الغرب الذي لا يحرك ساكنا. وهو الأمر الذي يرجّح احتمال سعى القوى العالمية إلى إضعاف اللاعب الإيراني من الداخل دون القضاء عليه عبر ضرب شرعيته الواهية في الشارع ثم استباق كل تغيير مفاجئ قد يحصل في أي حين. فالإبقاء على النظام الإيراني القروسطي المتخلف بهذا الشكل يجعله في حاجة ماسة إلى الشرعية الدولية بشكل سريّ أو علني لأن النظام وميليشياته ينهضون بوظائف خطيرة لصالح النظام العالمي لعل أهمها تهديد الحواضر السنية وتدمير العواصم العربية وخلق صراع عقائدي عميق في قلب دار الإسلام بين السنة والشيعة.

 

لكن نظام الملالي لم يدرك أن التغيرات العالمية التي عرفها العالم وانتقلت بسرعة رهيبة عبر الانفجار الرقمي قد أحدثت مطالب لا يمكن لأي نظام اليوم القفز عليها بشكل نهائي لأنها ستنفجر في وجهه يوما ما. فالشرطة الدينية التي تنشط في إيران أضحت أداة من أدوات عهد قديم لا يمكن لها إلا أن تتسبب في رفع منسوب الاحتقان الاجتماعي وتفجير الأوضاع مثلما يحدث اليوم مع حادثة مهسا أميني. وهو الأمر الذي سيفرض على النظام هناك إجراء تحويرات عميقة وحذرة قادرة على استيعاب التحولات الحادثة دون التفريط في رأس المال العقائدي الذي هو شريان حياة النظام في الداخل والخارج.

السعودية والهرب إلى الأمام

 

في السعودية استبق النظام المطالب الاجتماعية بإلغاء الشرطة الدينية أو جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووضع عددا كبير من العلماء والشيوخ في السجون خاصة ممن استنكروا الانزلاق الكبير لبلاد الحرمين نحو التغريب تحت غطاء الترفيه. فمواسم الترفيه لا تنقطع وتنفق فيها البلاد أموالا طائلة تحت مسميات براقة مثل الانفتاح والتحرر والحداثة وغيرها من الشعارات الكاذبة.

 

هذا الانفتاح لا يشمل منظومات الحقوق المدنية ولا الحق في التعبير وحرية الإعلام والنشر والفكر والنشاط السياسي فهي لا تزال من الكبائر التي تؤدي بصاحبها إلى ما وراء الشمس. أي أن النظام اختار التفريط في عدد من الثوابت العقائدية مثل حرية اللباس عند المرأة والاختلاط وغيرها مما يعتبر في الغرب مثلا جزءا من الحقوق الفردية الأساسية كقيادة المرأة للسيارة. هذا الانفتاح السريع هو في الحقيقة سبيل لمنع انفجار شبيه بالانفجار الايراني اليوم أي أن الشباب الذي هو القوة المحركة للمجتمع سيجد في هذه الملاهي متنفسا عن الكبت الديني والاجتماعي الأخلاقي الأسري الذي قد ينفجر في كل حين. صحيح أيضا أن هذا المسار السعودي سيثير حفيظة جزء عريض من التيار المحافظ ومن الطبقات الاجتماعية المتدينة لكنه سيمنح النظام جرعة هامة من الأكسيجين على الصعيد الدولي.

 

النظام السعودي والنظام الإيراني لا يبحثان عن الشرعية السياسية في الداخل بما هي أقوى وأعظم الشرعيات. فنظام الملالي يقمع الإيرانيين ويوهمهم بالانتصارات الإلهية عبر المجازر والمذابح التي يشرف عليها في اليمن والعراق وسوريا وعبر زعزعة أمن جيرانه والتوغل داخل أنظمتهم السياسية. لكنه تمكن في المقابل من صناعة طبقات اجتماعية وعقائدية تدين له بالولاء العقائدي مستفيدا من غباء الأنظمة العربية السنية وعلى رأسها السعودية التي تحارب كل محيطها السني والحركات الدينية أو السياسية المعبرة عنه.

 

لن تفلح مواسم الرياض في منع الشعوب من المطالبة بحقوقها الأساسية وعلى رأسها الحق في التعبير وفي المشاركة السياسية ولن يفلح قمع المتظاهرين الإيرانيين في إيقاف مطالب الجماهير بوضع حدّ لمهزلة حكم الملالي القمعي المتخلف. هي ليست غير جرعات مسكنة قد تدوم سنوات أو عقدا أو حتى عقدين لكنها ستنفجر يوما لتطيح بالنظام مهما كانت صلابته ما لم يستبق هو الأمر بإصلاحات حقيقية تكون الحرية والكرامة والحق في التعبير على رأس الحقوق المدنية الفردية والجماعية.