كتاب عربي 21

"لحظة أيار" المجيدة.. لماذا لم تلتقطها القيادات الفلسطينية؟

1300x600
لم يعش الشعب الفلسطيني بمختلف فئاته وأماكن وجوده لحظة اعتزاز وطني ووحدة نضالية كما حصل في "أيار" من العام 2021، عندما اشتبك الفلسطينيون جميعا مع الاحتلال، كل حسب ظروفه وواقعه، في لحظة واحدة، ما جعل الجيش الأقوى في الإقليم يفكر بوقف الحرب العدوانية على غزة بعد ثلاثة أيام من انطلاقها.

كانت القدس تخوض حربها الشعبية للدفاع عن الأقصى ومقاومة الاقتحامات الصهيونية الاستفزازية، وكان حي الشيخ جراح يقاوم الترحيل ومصادرة البيوت بطريقته في نفس اللحظة، وكانت مدن الداخل المحتلة منذ 1948 تعيش لحظتها التاريخية بأبهى صور الانتماء للشعب الفلسطيني من خلال التظاهر والمقاومة الشعبية، وكانت الضفة "تدوزن" إيقاعها النضالي لتكمل صورة نضال فلسطينيي الداخل بكل أماكنه. وفي نفس اللحظة المجيدة غير المسبوقة تلك، كان فلسطينيو الشتات/ الخارج يقدمون حصتهم من النضال من خلال الاشتباك الإعلامي والجماهيري مع رواية الاحتلال في الخارج، وعبر أدوات الضغط السياسي.

شكلت الصورة الكاملة من النضال الفلسطيني إلهاما للعالم وليس فقط للفلسطينيين الذين كانوا قد أصيبوا -أو كادوا- باليأس، بعد حملة من أنظمة عربية متوحشة سعت لترذيل الشعب الفلسطيني واتهامه بالخيانة وبيع الأرض لتشويه التاريخ ولتبرير التطبيع والهرولة نحو الاحتلال. جاءت "لحظة أيار" المجيدة في ظل تلك الظروف لترفع معنويات الفلسطيني، وتؤكد له أولا قبل أن تؤكد للآخرين أن هناك في هذه الأرض -التي تستحق الحياة- شعبا يستحق الحياة والاحترام هو الآخر.
شكلت الصورة الكاملة من النضال الفلسطيني إلهاما للعالم وليس فقط للفلسطينيين الذين كانوا قد أصيبوا -أو كادوا- باليأس، بعد حملة من أنظمة عربية متوحشة سعت لترذيل الشعب الفلسطيني واتهامه بالخيانة وبيع الأرض لتشويه التاريخ ولتبرير التطبيع والهرولة نحو الاحتلال. جاءت "لحظة أيار" المجيدة في ظل تلك الظروف لترفع معنويات الفلسطيني

ولعل هذا ما يفسر الظواهر الاجتماعية غير المسبوقة التي رافقت "لحظة أيار"، مثل انتشار الغناء الشعبي للمقاومة في الضفة والداخل الفلسطيني، والهتاف لرموز المقاومة في القدس والضفة ومن قبل أعضاء في حركة فتح تجاوزوا الخلافات السياسية وانتموا للحظة المجيدة.

انتهت الحرب في غزة، وخفت الاشتباك مع المحتل في الضفة -قبل أن يعود مجددا خلال الشهور الماضية- وظلت النار التي تحت رماد فلسطينيي 1948 كامنة بانتظار لحظة مواتية جديدة للاشتباك مع الاحتلال، وعادت فعاليات الاشتباك السياسي من قبل فلسطينيي الشتات لوتيرتها العادية. لم يكن متوقعا أن تستمر اللحظة التاريخية طويلا أو للأبد، فهذه هي طبائع الصراعات وطبائع البشر، ولكن كثيرين كانوا يحلمون أن تشكل رافعة جديدة للنضال الفلسطيني وأن تمثل نواة لمشروع وطني شامل ومستدام، ولكن هذا لم يحدث.

فلماذا فشلت القيادات الفلسطينية في اقتناص هذه اللحظة التاريخية؟ ولماذا يستمر تضييع الفرص التاريخية كل مرة؟
فشلت الفصائل الفلسطينية المقاومة بكل تنوعاتها بالاستفادة من الزخم الذي قدمته "لحظة أيار" أولا، بسبب غياب التنظير والتأطير الفكري للنضال الوطني من قبل الفصائل الفلسطينية. تعمل القيادات الفلسطينية بنظام "القطعة" وليس وفق نظرة شمولية تحدد أهداف وأشكال النضال ووسائله التكتيكية والاستراتيجية

وعندما نتحدث عن القيادات الفلسطينية فإننا لا نعني بالطبع الرئيس محمود عباس وسلطة الحكم الذاتي/ أوسلو، فلعل أفضل ما يمثل حال هذه السلطة وقياداتها المثل الشعبي الذي يقول "الضرب بالميت حرام"! ولكننا نتحدث عن فصائل المقاومة التي لا تزال تمثل مشروعا وطنيا محتملا، لم ينضج بعد ولكنه لم يخبت نهائيا في نفس الوقت.

فشلت الفصائل الفلسطينية المقاومة بكل تنوعاتها بالاستفادة من الزخم الذي قدمته "لحظة أيار" أولا، بسبب غياب التنظير والتأطير الفكري للنضال الوطني من قبل الفصائل الفلسطينية. تعمل القيادات الفلسطينية بنظام "القطعة" وليس وفق نظرة شمولية تحدد أهداف وأشكال النضال ووسائله التكتيكية والاستراتيجية، ولذلك فهي تتصرف في أغلب الأوقات كردة فعل بدلا من البدء بالفعل.

ومع غياب التنظير يفتَقد المفهوم الشامل للنضال الفلسطيني، والذي يمكن أن يعبَر عنه بالمشروع الوطني. هذا المشروع المنشود لا بد له حتى ينجح أن يكون شاملا لكل قطاعات وأبناء الشعب الفلسطيني، في الضفة وغزة والداخل (1948) والخارج دون إهمال أي طرف ودوره ونضالاته.
إذا كانت فصائل المقاومة كلها تقريبا تعلن رفضها لما أنتجته اتفاقيات أوسلو، ولكنها عمليا باتت تعمل وفق قواعد اللعب التي خلقتها هذه الاتفاقيات، وصارت تتصرف وكأنها "دولة مستقلة"، وتضخم عندها الصراع في الحدود الجغرافية لسلطة أوسلو، فيما أهمل الاشتباك بمختلف أنواعه

يمثل المشروع الصهيوني احتلالا وجريمة بحق كل أبناء الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية والشتات، وهو يضع الاستراتيجيات والخطط لمحاربة كل هذه الفئات، ولذلك فإن مقاومته تتطلب أيضا استراتيجيات شاملة لكل فئات الشعب الفلسطيني. لقد كانت منظمة التحرير الفلسطينية -بكل عيوبها- تمثل سابقا البيت الذي يحمل المشروع الوطني الشامل، وكانت تمارس نشاطها واشتباكها مع الاحتلال من الداخل -بكل أماكنه- ومن الخارج، وهي وإن أخطأت بالتركيز على النضال من خارج فلسطين عبر الحدود إلا أنها لم تهمل تماما النضال داخلها، قبل أن تؤدي كارثة أوسلو إلى تقزيم القضية الفلسطينية إلى صراع على نسب ومساحة أراضي الحكم الذاتي، فيما تم إهمال فلسطينيي الداخل والقدس والخارج وإسقاطهم تقريبا من معادلة النضال.

وإذا كانت فصائل المقاومة كلها تقريبا تعلن رفضها لما أنتجته اتفاقيات أوسلو، فإنها عمليا باتت تعمل وفق قواعد اللعب التي خلقتها هذه الاتفاقيات، وصارت تتصرف وكأنها "دولة مستقلة"، وتضخم عندها الصراع في الحدود الجغرافية لسلطة أوسلو، فيما أهمل الاشتباك بمختلف أنواعه في القدس والداخل والشتات.

لم تنتصر حركة تحرر اقتصرت في نضالها على فئة من شعبها وأرضها دون آخر، ولا يمكن للنضال الفلسطيني أن يكون مؤثرا أو أن ينتصر إلا إذا توحدت قطاعات الشعب كلها في الداخل والخارج على مشروع وطني يتفق على صور الاشتباك مع الاحتلال من كل قطاع حسب ظروفه، وقد أثبتت "لحظة أيار" المجيدة أن هذا ممكن ومؤثر وتاريخي!

twitter.com/ferasabuhelal