الآثار السلبية
للانقلاب على مؤسسات الدولة وعلى المسار الديمقراطي وعلى الهيئات الدستورية، تكلم
فيها الساسة وقادة الأحزاب وإعلاميون ومناضلون كثيرون، كذلك الآثار الاقتصادية
والمعيشية تكلم فيها أهل الاختصاص وأبانوا مخاطرها حاضرا ومستقبلا، غير أن خطرا
يبدو أكثر ضررا لم يحظ بما يستحق من الاهتمام والانتباه، إنه خطر التدمير السريع
للنسيج المجتمعي بركائزه الأخلاقية والقيمية والروحية.
هذا الخطر مصدره
قاموس مفردات خطاب غرفة انقلاب قيس سعيد وما يرشح منه من سباب وشتائم وحكم على
ضمائر الناس وإيمانهم، وما تبع ذلك من استهداف بغير ملفات إدانة لرموز نضالية
وفكرية ودينية في المجتمع التونسي.. هذا القاموس وهذا الاستهداف أكسب الكثير من
التونسيين -عن حسن نية أو سوئها- جرأة على إطلاق التهم دون دليل، وعلى ممارسة
التشويه والتحريض وعلى إبداء التشفي والسخرية من معارضي قيس سعيد، وخاصة ممن حكموا
أو شاركوا في الحكم في العشرية السابقة.
التونسيون الذين
يمثلون مجتمعا منسجما ثقافيا وعقديا وحضاريا ومذهبيا، ظلوا دائما متماسكين، تشدهم
كيمياء الدين والثقافة والتقاليد ومعاني الجيرة والقرابة وصلة الرحم. لم تكن
لتفرقهم الأيديولوجيا والاختلافات الفكرية، كانوا يختلفون ويتآلفون، يتنافسون
ويتعاونون يتصارعون ويتراحمون، ولكنهم لم يصلوا إلى ما هم عليه الآن من عنف خطاب
وإبداء كراهية وحقد ونكاية بلغت حدّ الشماتة في المرض والموت والسجن وحوادث المرور
وحرائق المقرات.
أسوأ ما سيخلفه الانقلاب ليس الفقر وإنما الحقد، وليس الأزمة الاقتصادية وإنما تلوث القيم وانتشار العنف وشيوع البذاءة والكراهية والتفاهة؛ بسبب أن غرفة الانقلاب لا تعتمد كفاءات الدولة والمجتمع، وإنما تعتمد جمهورا أغلبه من الغوغائيين والانتهازيين
هذا ليس من طبيعة
التونسيين وقد عُرفوا بالسلمية والمدنية وقيم التضامن والتراحم، غير أن ظاهرة
"قيس سعيد" وغرفة انقلابه وبما جلبته من عنجهية وعجرفة وجلافة وغلظة؛ هي
التي انتزعت التونسيين من بيئتهم العاقلة لتضعهم على صفيح نار مستعرة تتهدد السلم
الاجتماعية والوحدة الوطنية بما ستخلفه للأجيال القادمة من أحقاد وكراهية ونوازع
ثأر.
لقد حاولت الطبقة
السياسية والفكرية التي تصدرت الشأن العام إثر هروب ابن علي في 2011 أن تدفن أحقاد
ضحايا الظلم والاستبداد من خلال خطاب التسامح والتوافق وشعار "اذهبوا فأنتم
الطلقاء"، لم تحدث محاكمات قاسية أو مداهمات ولا عمليات اختطاف أو حتى مبادرات
فردية للقصاص من الجلادين والمغتصبين والقوادين، وكانوا يعرفون أسماءهم وعناوينهم،
لقد كانت عملية صعبة ولكنها ناجحة، عملية تهدئة الروح الغضبية والنزعة الثأرية لدى
المظلومين والضحايا، وقد تحملت النخبة السياسية والفكرية موجات من النقد بسبب
رصانتها وحكمتها وعقلانيتها حين تصرفت بمنطق الدولة لا بمنطق الجماعة أو القبيلة.
إن أسوأ ما
سيخلفه الانقلاب ليس الفقر وإنما الحقد، وليس الأزمة الاقتصادية وإنما تلوث القيم
وانتشار العنف وشيوع البذاءة والكراهية والتفاهة؛ بسبب أن غرفة الانقلاب لا تعتمد
كفاءات الدولة والمجتمع، وإنما تعتمد جمهورا أغلبه من الغوغائيين والانتهازيين ممن
يبحثون عن مواقع ومنافع في "تجربة" يرونها جديدة؛ لم يسبقهم إليها
مناضلون أو ذوو كفاءة يحجبون عنهم أوهامهم وأطماعهم.
ظاهرة قيس سعيد وغرفته الانقلابية أفقدت التونسيين ما بقي لديهم من أمل في الإصلاح وجعلتهم يخافون على مستقبل أبنائهم، أبناؤهم الذين انتظروا وعود السياسيين وصبروا عليهم ها هم يغادرون الوطن إما بطرائق قانونية، وهذا متاح لأصحاب الاختصاصات والمهارات، وإما بطرائق غير قانونية
إن ظاهرة قيس
سعيد من وجهة نظر ثقافية وأخلاقية هي أسوأ ظاهرة عرفها التونسيون في العصر الحديث.
ظاهرة قيس سعيد وغرفته
الانقلابية أفقدت التونسيين ما بقي لديهم من أمل في الإصلاح وجعلتهم يخافون على
مستقبل أبنائهم، أبناؤهم الذين انتظروا وعود السياسيين وصبروا عليهم ها هم يغادرون
الوطن إما بطرائق قانونية، وهذا متاح لأصحاب الاختصاصات والمهارات، وإما بطرائق
غير قانونية يحتال عليهم مهربون ثم يسلمونهم لحيتان البحر وجبروت الأمواج. لقد
فقدت العائلات التونسية خلال الأسبوع الفائت أكثر من مائة شاب، إضافة لما قيل عن
آلاف المهاجرين خاصة من ولايات الجنوب التونسي.
الأزمات
الاجتماعية يمكن معالجتها في وقت وجيز نسبيا إذا توفرت العزائم وشروط المعالجات
الداخلية والخارجية، ولكن الأزمات الأخلاقية والقيمية قد نحتاج عقودا لمعالجة
آثارها المدمرة نفسيا وذهنيا وعلائقيا.
وإذا كانت
معالجات الأزمة الاقتصادية يُتعاون فيها مع أصدقاء وأشقاء إقليميين ودوليين، فإن
أزمة القيم والأخلاق تحتاج وعي التونسيين بما يتهدد وحدتهم، واستفاقتهم من سكرات
الأحقاد والكراهية ونشوة النكاية والشماتة وأوهام الانتصار على بعضهم البعض.
twitter.com/bahriarfaoui1