كتاب عربي 21

هل للربيع العربي نفس آخر؟

1300x600

الإجابة بـ "لا" تحبط صاحب السؤال قبل قارئه. لذلك فإن جزءا من الإجابة سيكون لطمأنة السائل قبل تثبيت جنان القارئ. لكن على هذا القارئ أن يكون عارفا ببعض علم النفس، فعندما يجيب السائل نفسه مطمئنا قبل طرح المسألة في عمقها فذلك دليل على أن التفاؤل وصل درجاته الدنيا. سنبدأ بجمل التعزية فقد عشنا الربيع العربي وتشرفنا بالسير في شوارعه الهادرة وقلنا كل خير في الشهداء ودفعنا جهد المجتهدين إلى حدود القدرة وباركنا كل نجاح. ونقول الآن لقد حظينا بشرف المشاركة في الربيع العربي. ولن نخذل الصبورين على المكاره فنحن بعضهم أو من ذوي قرباهم وأن غلب العتب والغضب على كثير مما نكتب. لن نفقد الأمل لكننا لن نغفل الحديث عن المكاره والمزالق والخيانات العارية.

خيانات الداخل أشد فتكا من الضغوط الخارجية

من أين نبدأ في تعداد الخيانات؟ هذه في حد ذاتها معضلة منهجية. لكن ضربة عسكر المعونة المصري للتجربة الديمقراطية الوليدة في مصر كانت قاصمة.

لم تكن التجربة قد أعطت ثمرها الاقتصادي وإن كانت سنتا الحرية منتجتين لكل خير. لقد صار الحديث عن تحقيق الاكتفاء الغذائي لشعب المائة مليون حديثا عاما ورافقه تحد كبير يمكن لمصر أن تعيش من نيلها كما عاشت أبدا دون الخضوع لشروط المعونة المذلة. انقطاع هذا الحديث الآمل كان أكثر إيلاما من مجزرة رابعة. لقد أعاد العسكر المصري مصر إلى وضع الدولة المتسولة. 

 

في الردة المصرية ثم التونسية وبينهما الورطة الليبية وجدنا القوميين العرب وكل فصائل اليسار العربي تقف مع كل انقلاب وتساند كل فعل وكل حركة معادية للحريات بما في ذلك الخائن حفتر. ولقد انكشفت لنا تناقضات في المواقف لا يمكن التعامل معها إلا بسخرية واحتقار فهناك قوميون عرب يمجدون القذافي وينوحون على نظامه بعد ويقفون الآن مع حفتر الذي خانه وحاربه.

 



كانت الأموال الخليجية تحت الطلب وأعطت للانقلاب أجنحة لكن مقابل قصقصة أجنحة الأمل المصري في التحول إلى دولة نمر وهي تملك كل قدرات النمور وتزيد عليها موقعا استراتيجيا. يخفي الانقلاب الآن أرقامه ويزيف معطياته لكن المواطن المصري يعرف الحقيقية بعيدا عن التزييف الإعلامي لأنها يحسها في جيبه وبيته.
 
على خطى الانقلاب المصري بل بتوجيه منه وتدبير يقود قيس سعيد تونس نحو وضع شبيه. لم تلبث نتائجه أن ظهرت للعيان. وحديث الندم يسمع في كل مكان.
 
لا نحتاج هنا إلى المزيد من توصيف اللحظة المصرية والتونسية فهي بائسة على كل الصعد والواجهات لكن في الموازنة بين الأسباب الداخلية والخارجية التي حرضت على الردة نقول لو لم توجد قوى داخلية معادية للثورة وللحرية لما أفلح أي انقلاب. ولذلك عندما نشخص مسارات البحث عن الأمل نجد أمامنا هذه القوى التي لا يمكن وصفها إلا بالخيانة. نظم إلى الحالتين الحالة الليبية والسورية. لنجد أعداء الربيع العربي متكاتفين يعملون في اركسترا لها صوت واحد ولها أدوات متشابهة. لقد انكشف لنا أعداء الداخل وهذا سبب للأمل لأنه سبب لإعادة ترتيب الصفوف نحو المستقبل.

صون الحريات مقياس وحيد

جيلي الواقف على عتبات عقده السابع تعرض إلى خديعة عمرت طويلا. لقد كانت الصفوف السياسية مرتبة بين تقدمي ورجعي. وكان التقدميون يمنحون أوسمة التقدمية فكل قومي عربي تقدمي بالسليقة وكل يساري تقدمي بالضرورة وكل إسلامي رجعي بالقوة يحشر مع الرجعيات العربية الحاكمة وخاصة حكام الخليج العربي.

من مظاهر الخديعة وإفرازاتها أننا كنا نلغي سؤالا منهجيا لماذا تحارب الأنظمة الرجعية العربية معارضيها الرجعيين وتدلل معارضها التقدميين وتشركهم في مغانمها. تجربتنا في الربيع العربي أهدت إلينا هدية كبيرة لقد كشفت التقدميين المزيفين وعرفتنا على جوهر الإسلاميين أنصار الحريات وحماتها.


في الردة المصرية ثم التونسية وبينهما الورطة الليبية وجدنا القوميين العرب وكل فصائل اليسار العربي تقف مع كل انقلاب وتساند كل فعل وكل حركة معادية للحريات بما في ذلك الخائن حفتر. ولقد انكشفت لنا تناقضات في المواقف لا يمكن التعامل معها إلا بسخرية واحتقار فهناك قوميون عرب يمجدون القذافي وينوحون على نظامه بعد ويقفون الآن مع حفتر الذي خانه وحاربه.

ويمكننا أن نعدد الأمثلة إلى ما لا نهاية فالموقف القومي واليساري من إيران تحول بمائة وثمانين درجة. لقد عشنا حرب العراق وإيران وكان اليسار والقوميون صداميون أكثر من صدام حسين وكل من يذكر الثورة الايرانية بخير يصير خائنا للأمة واليوم يحج القوميون واليسار إلى طهران ويسألون الدعم. لكن لنكتف بالإشارة أن الردة على الربيع العربي تمول من الرجعيات العربية التي امتلأت كروشنا بلعنها بتأثير من التقدميين العرب. الآن وقد انكشفت الخديعة نحدد المقياس السليم للسير نحو المستقبل. الحرية وحدها مقياس.

إذا فيه أمل ففي الحرية

تمايزت الصفوف على هذا الأساس. وعرف كل أناس مع من يقفون في معارك قادمة تفرضها بالقوة الوضعيات الاقتصادية والاجتماعية السائرة نحو السوء بسرعة الضوء. فهذه الردة قاصرة ولا تبتكر من الحلول إلا القمع كسيرة من سبقها. إن القليل من الحرية وقد ذاقه الناس وعرفوا طعمه كفيل بإعادة تأسيس مسار تحرري وثوري جديد شريطة أن يؤمن أنصار الحرية بقدرهم ويرتبون تحالفاتهم على قاعدة الإيمان بالحرية ودورها وأن ينظموا جهدهم عبر قطيعة منهجية وحاسمة وشجاعة مع كل الذين فضحهم الربيع العربي وكشف بؤسهم الأخلاقي والسياسي وأثبت للتاريخ وللناس أنهم ليسوا إلا زبانية أنظمة تعادي الحرية وتعيش من القهر وتحمي مصالحها بالقمع البوليسي لقد دلنا الربيع العربي على الشرطة القائمة خارج الثكنات. تحتمي بالزيف الأكاديمي مرة وبالثورية النقابية أخرى.

هدف الربيع العربي كان كبيرا وشاملا ككل ثورة لذلك اختل ترتيب المسائل المبدئية وأراد كثيرون إنجاز معجزات كثيرة في زمن قياسي رغبة في استدراك الزمن الضائع منذ الاستقلال لكن هذه اللهفة -وكم هي مشروعة وأخلاقية- أربكت مسار حماية الحريات وهمشت دعاتها فتحالفوا مع خونة وأدعياء رجعيين فعلا وإن صرخوا بالتقدمية لألف سنة أخرى. وقد آن أوان إعادة ترتيب الأوليات بلا عقد دونية أمام اليسار العربي السفيه. وأخذ النفس الجديد لصعود السلم بثبات.

الحرية أولا والحرية دائما وبقية المنجز الثوري سيتبعها محميا من كل ردة هذا الأمل الأخير وكم هو عزيز المنال لكن لا باب غيره يفتح على المستقبل. نكتبها آملين لا متعزين من خيبة وإن خالفنا حياد المحلل.