صحافة دولية

مسؤول هندي سابق: لا أحد يريد النظام العالمي الحالي

قال إن النظام الدولي بائس ومثير للشفقة بعد ضعفه أمام جائحة كورونا وأزمة ديون الدول النامية- جيتي

قال مستشار الأمن القومي الهندي السابق شيفشانكار مينون، في مقال في مجلة فورين أفيرز الأمريكية، إن العالم اليوم يبدو تائها بين الأنظمة الموجودة، وكان آخر تدخل للنظام الموجود حاليا في العالم خلال أزمة الانهيار المالي في عام 2008، لكن عقب أزمة الديون في الدول النامية وجائحة كورونا، فإنه لا يمكن وصف الموجود حاليا إلا بأنه بائس ومثير للشفقة.

وأوضح في المقال الذي ترجمته "عربي21"، أن ما يجري نابع من عدد الراغبين في الحفاظ على النظام الدولي الحالي في تناقص بمن فيهم الذين أقاموه، وبات وكأن القوى الكبرى، تتصرف من خلال ما يمكن أن يطلق عليه السلوك "التنقيحي"، حيث تعمل على تحقيق الغايات الخاصة بها، ولو على حساب النظام الدولي، بل وتسعى إلى تغيير النظام نفسه.

وفي ما يأتي النص الكامل للمقال:

 

بات العالم تائهاً، يتأرجح بين الأنظمة. كان آخر رد محكم للنظام الدولي على التحديات المتجاوزة للأقطار قد جاء في قمة لندن لمجموعة العشرين في شهر إبريل/ نيسان من عام 2009، عندما اتخذ الزعماء بعد الانهيار المالي في عام 2008 خطوات للحيلولة دون حدوث ركود عظيم آخر، ولإعادة التوازن إلى النظام البنكي العالمي. أما ما جاء بعد ذلك من رد دولي على أزمة المناخ، وعلى أزمة الدين المتفشية في البلدان النامية، وعلى جائحة كوفيد-19، فلا يمكن وصفه إلا بأنه بائس ومثير للشفقة.

ينبع ذلك الفشل من حقيقة أن عدداً أقل فأقل من البلدان، بما في ذلك تلك التي أقامت النظام الدولي السابق، تبدو ملتزمة بالحفاظ عليه. فقد تزعمت الولايات المتحدة نظامين بعد الحرب العالمية الثانية: أما الأول فكينيزي (نسبة إلى النظرية الاقتصادية التي وضعها عالم الاقتصاد البريطاني جون ماينارد كينيز)، والذي أفرط بعدم الاهتمام بكيفية إدارة الدول شؤونها الداخلية في عالم الحرب الباردة ثنائي القطبية (وبناء عليه فإن الهند الاشتراكية كان بإمكانها أن تغدو أكبر مستفيد من مساعدات البنك الدولي في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي). وأما الثاني في فترة ما بعد الحرب الباردة فنيوليبرالي، في عالم أحادي القطبية، وكان ديدنه تجاهل السيادة الوطنية والحدود كلما وجد الحاجة إلى ذلك. ومع ذلك فقد ادعى كل واحد من النظامين بأنه "مفتوح، وقائم على القواعد والأحكام، وليبرالي،" يتمسك بقيم الديمقراطية، وبما يسمى السوق الحرة، وبحقوق الإنسان، ومبدأ سيادة القانون. أما في الواقع فقد قاما كلاهما على هيمنة الولايات المتحدة وتبعاً لأولويات قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية. وخلال جل الحقبة التي تلت موت الاتحاد السوفياتي، تساوقت معظم القوى، بما في ذلك الصين الصاعدة، بالعموم، مع النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.

إلا أن السنوات الأخيرة كشفت عن أن تلك الترتيبات باتت شيئاً من الماضي. وذلك أن القوى الكبرى تتصرف من خلال ما يمكن أن يطلق عليه السلوك "التنقيحي"، حيث تعمل على تحقيق الغايات الخاصة بها ولو على حساب النظام الدولي، بل وتسعى إلى تغيير النظام نفسه. عادة ما تتخذ التنقيحية شكل النزاعات الإقليمية، وخاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادي: مثل التوترات بين الصين وجيرانها الهند واليابان وفيتنام، وقد تخطر بالبال توترات أخرى في المناطق البحرية الآسيوية. ويعتبر غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا انتهاكاً للأعراف الدولية وقدحاً إضافياً في فكرة أنه يمكن لروسيا أن تجد لنفسها دوراً مريحاً ضمن النظام الذي تقوده الولايات المتحدة في أوروبا. كما تتجلى التنقيحية في أفعال مجموعة من القوى الأخرى، بما في ذلك الارتياب المتنامي حول التجارة الحرة داخل الولايات المتحدة، وتعزيز التسلح في اليابان التي كانت تنتهج السلمية ذات حين، وإعادة تسليح ألمانيا. كثير من البلدان لا يسعدها الشكل الذي ترى فيه العالم، وتسعى لتغييره بما يخدم مصالحها. وقد يفضي هذا التوجه إلى جيوسياسة أكثر دناءة وأشد شراسة، وإلى آفاق اقتصادية عالمية أكثر رداءة. وقد يغدو التكيف مع عالم تسود فيه القوى التنقيحية هو التحدي الذي يميز القادم من السنين.

تنقيحيون هنا وهناك وفي كل مكان

قليل من القوى الكبرى في العالم يرضيها النظام الدولي القائم حالياً. تلتزم الولايات المتحدة، بوصفها القوة العظمى الوحيدة عالمياً، بتوسيع الأجندة المحلية للرئيس جو بايدن تحت شعار "هيا بنا نعيد بناء عالم أفضل". يشير اسم البرنامج ذاته إلى أن النظام الذي تزعمته الولايات المتحدة بنجاح باهر لما يزيد عن نصف قرن يحتاج إلى تحسين. ولذلك تبدو مؤسسة السياسة الخارجية داخل الولايات المتحدة في حالة من الشقاق بسبب خطوط التصدع التي تفصل أولئك الذين يدعون إلى شكل حديث من الانعزالية والانضباط، عن أولئك الذين انطلقوا في عملية أيديولوجية بحثاً عن تقسيم للعالم إلى دول ديمقراطية وأخرى استبدادية. وأدارت الولايات المتحدة ظهرها للمؤسسات الدولية التي بنتها، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، وتراجعت عن التزاماتها إزاء التجارة الحرة من خلال الانسحاب من الشراكة بين أقطار المحيط الهادي. وتزداد الصورة قتامة للناظر من داخل واشنطن، وتلوح في الأفق تهديدات تشكلها القوى الكبرى، ليس فقط الصين بل وأيضاً روسيا، والتي يتم بمختلف الطرق طردها من النظام الدولي، الذي كان قد سعى جاهداً لإعادة تشكيلها على الطريقة الغربية.

كانت الصين أكبر المستفيدين من النظام المعولم الذي تقوده الولايات المتحدة. وهي الآن تسعى، بحسب ما صرح به الرئيس تشي جينبينغ، لاحتلال موقع الصدارة. وتبحث بكين صراحة عن إعادة ترتيب ميزان القوة في آسيا، وتريد أن يكون للصين صوت أكبر في الشؤون الدولية. إلا أن زعماء الصين مازالوا بحاجة للإتيان بأيديولوجيا بديلة تجذب الآخرين أو تضفي شرعية على سعيهم للهيمنة. فحتى في جوارها المباشر، ثمة من ينازع الصين على نفوذها. فالصين محاطة بمناطق اشتعال ومعضلات أمنية كبرى، بما في ذلك مستقبل تايوان والنزاعات الإقليمية مع الهند واليابان. وتلك النزاعات ناجمة عن السبل الحقيقية التي من خلالها قوضت الصين ميزان القوة على المستوى الإقليمي والعالمي. بأخذها معاً، يتجلى من أفعال الصين الحازمة منذ عام 2008 أن بكين تسعى إلى تغيير النظام الدولي.

في عالم من القوى التنقيحية سيكون الوضع أكثر دناءة، وأشد شراسة، وأكثر رداءة

من جانبها، لا يوجد لروسيا في الواقع مكان مناسب في النظام الدولي الذي ما فتئت القوى الغربية تسعى جاهدة لإقحامها فيه خلال السنوات التي أعقبت مباشرة نهاية الحرب الباردة. بدلاً من ذلك، تعرب موسكو عن امتعاضها لتخلفها وتراجع نفوذها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وما غزو أوكرانيا إلا التعبير الأخير عن هذا الإحساس بالتظلم، والذي يجعل روسيا تعمل مع الصين من أجل تقويض الزعامة الدولية للولايات المتحدة، وسعياً منها لخض أوروبا، حيث مازال للقوة الروسية اعتبارها، سواء من الناحية الاقتصادية أو من الناحية العسكرية.

حفز الغزو الروسي لأوكرانيا المستشار الألماني أولاف شولز على الإعلان بأن العالم وصل إلى نقطة تحول. فبعد عقود من التفوق الاقتصادي، ولكن بطموحات سياسية محدودة، تلعب ألمانيا الآن دوراً أكثر حزماً في الإقليم وفي العالم، وذلك من خلال السعي لبناء ذراع عسكري لها في أوكرانيا، وإعادة تقييم علاقاتها المهمة مع كل من الصين وروسيا. فمن الجدير بالذكر أن الذعر الذي بثته رئاسة دونالد ترامب في أوصال حلفاء الولايات المتحدة، مثل ألمانيا واليابان، وأثار لديهم خشية من أن تتخلى الولايات المتحدة يوماً عنهم، هو الذي شجعهم على العمل على تعزيز قدراتهم الأمنية.

وبفضل صعود الصين، عمدت اليابان إلى إعادة تقييم دورها في الإقليم وفي النظام الدولي. تمر اليابان حالياً بعملية تحول من التركيز على الاقتصاد، والسلمية، والقوة التي لا تتدخل في شؤون الآخرين، بسبب ما ظلت تحمله على كاهلها من عبء إرث الحرب العالمية الثانية، إلى أن تصبح بلداً طبيعياً، يسعى لخدمة مصالحه الأمنية، ويلعب دوراً قيادياً في منطقة المحيطين الهندي والهادي. وكان شينزو آبي، رئيس الوزراء السابق الذي اغتيل مؤخراً، قد تبنى هذا التغيير وجعله ممكناً، حتى غدا يتمتع بدعم شعبي عريض. ينبع التزام اليابان العلني بمبدأ الحفاظ على منطقة المحيطين الهندي والهادي حرة ومفتوحة، والكواد (الحوار الأمني الرباعي، والذي هو عبارة عن شراكة مع أستراليا والهند والولايات المتحدة)، وغير ذلك من المبادرات، من خشيتها من صعود الصين وكذلك من إعادة التخندق المحتملة للولايات المتحدة. وأما الهند، التي احتضنت واستفادت من النظام الدولي الليبرالي بزعامة الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة، فتبقى عضواً ساخطاً. فلم يزل سعيها للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي أبرز نموذج لرغبة الهند في أن يكون لها صوت أكبر في النظام الدولي يتناسب مع وزنها الاقتصادي والجيوسياسي.

فقد الثقة

لو كانت لدى القوى الكبرى شكوك حول نظام قائم على القواعد والأحكام، فلم تلبث البلدان الأضعف تفقد بالتدريج الثقة في شرعية وعدالة النظام الدولي. وهذا ينطبق بكل تأكيد على بلدان النصف الجنوبي من المعمورة، التي رأت الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية ومجموعة العشرين وغيرها تفشل في التصرف إزاء قضايا التنمية، بل والأكثر إلحاحاً، إزاء أزمة الدين التي تعصف بالبلدان النامية – وهي الأزمة التي فاقم من حدتها جائحة كوفيد-19، والتضخم في أسعار الغذاء والطاقة بسبب الحرب الأوكرانية. وطبقاً لصندوق النقد الدولي فإن 53 بلداً تقف الآن على حافة أزمات ديون بالغة الخطورة.

يضاعف من آثار الفشل الاقتصادي في التاريخ الحديث، ما وقع خلال هذا القرن وحده من عمليات غزو واحتلال، ومحاولات تغيير الأنظمة الحاكمة، والتدخلات السرية من قبل القوى الكبرى. وما الغزو الروسي لأوكرانيا إلا أحدث النماذج الصارخة لمثل هذه الانتهاكات للسيادة الوطنية، والتي تدان بارتكابها الكثير من القوى الغربية. دفع هذا السلوك الكثير من البلدان النامية نحو الشعور حتى بمزيد من انعدام الأمن ونحو الارتياب في النظام الدولي.

لم تلبث تتآكل الثقة بأركان ذلك النظام، فمنذ سنين لم تعد قرارات فرض العقوبات الاقتصادية أو القيام بإجراءات عسكرية ضد بلدان معينة تمر عبر مجلس الأمن الدولي أو أي من المنتديات الدولية متعددة الأطراف. وبدلاً من ذلك، تعتمد قرارات فرض العقوبات والتدخلات العسكرية في ضمان فاعليتها على قوة الولايات المتحدة أو على القوة الغربية. ونجم عن الطبيعة النكدة للعلاقات السائدة بين القوى الكبرى أن غدت المؤسسات الدولية، وبشكل مضطرد، أقل فاعلية. ومع عجز القانون الدولي عن لجم الأقوياء وتقييد ما يصدر عنهم من أفعال، تراجعت بشكل تدريجي شرعية تلك المؤسسات. وبدأت تهرأ الأعراف التي سادت دهراً طويلاً، ويمكن للمرء أن يتأمل على سبيل المثال في الزيادة المحتملة في انتشار السلاح النووي في شمال شرق آسيا، حيث غدا الزعماء اليابانيون أكثر استعداداً لمناقشة الحصول على غواصات نووية وكذلك مناقشة عودة الأسلحة النووية الأمريكية إلى المنطقة.

عالم خطر

يتسلل نوع من الفوضى إلى داخل العلاقات الدولية – وليس المقصود بذلك الفوضى من النمط التقليدي المعروف، وإنما المقصود غياب المبدأ المركزي المنظم، أو العنصر المسيطر. لا توجد قوة واحدة قادرة على إملاء شروط النظام الحالي، ولا تشترك القوى الكبرى في مجموعة واضحة من المبادئ والأعراف. ما من شك في أن من العسير فرض قواعد السير على الطريق إذا كانت الكثير من الدول تسير كل منها في طريقها الخاص بها. وبالفعل، تثير اليوم كل من الصين وروسيا، قولاً وفعلاً، تساؤلات حول جوانب رئيسية من النظام الليبرالي الغربي، وخاصة فيما يتعلق بأعرافه حول حقوق الإنسان وبما على الدول من واجبات والتزامات. وهنا يستحضرون مبدأ سيادة الدول كدرع يتيح لهم التصرف كما يريدون بينما يسعون لوضع قواعد جديدة في قطاعات مثل الفضاء السيبراني والتكنولوجيات الجديدة. إلا أنهم لم يأتوا بعد بالبديل، أو بما يمكن أن يكون جاذباً بما يكفي للآخرين. وبالفعل، أثبت تعاملهم مع جيرانهم – في أوكرانيا وفي جنوب بحر الصين وفي بحر شرق الصين على الحدود الهندية الصينية – اعتماداً هائلاً على القوة العسكرية والاقتصادية الصلبة على حساب الأعراف والمؤسسات.

وبنفس الشكل، من المضلل أن نرى اليوم حرباً باردة أخرى يتم تحديدها من خلال القطبية الثنائية الحادة بين معسكرين: "العالم الحر" من جهة وعالم "الأنظمة المستبدة" من جهة أخرى. صحيح أن التحالف عبر الأطلسي قد تعزز، وأن الصين وروسيا تبدوان متحدتين في تحالف معاد في مواجهة الغرب، إلا أن ذلك أبعد ما يكون عن حرب باردة أخرى. فثمة العديد من الديمقراطيات التي تظهر عليها بشكل متزايد طبائع الدول المستبدة. كما يظهر من ردود فعل العالم على الحرب الأوكرانية ومن العقوبات الغربية المفروضة على روسيا أنه لا يوجد كتلة موحدة وواضحة المعالم خارج التحالف عبر الأطلسي. كما أن اعتماد كل من الصين والولايات المتحدة اقتصادياً على بعضهما البعض لم يكن له مثيل في الحرب الباردة عندما كان الخصوم الرئيسيون تفصلهم عن بعضهم البعض مسافة كتلك التي بين القطبين. هذا بالإضافة إلى أنه لا يوجد مكافئ للبدائل الأيديولوجية التي كان يعرضها المتنافسون في الحرب الباردة، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. لا يوجد اليوم ما يشبه جاذبية الشيوعية والاشتراكية للبلدان النامية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. كما أن النظام السلطوي الأول في العالم، الصين، لا يقدم بديلاً أيديولوجياً أو نظامياً، وإنما يجذب الأقطار الأخرى بالإغراءات المالية والتكنولوجية ومن خلال التعهد لها بإقامة البنى التحتية وتنفيذ المشاريع، وليس المبادئ.

بدلاً من ذلك غدت العلاقات الجيوسياسية أكثر نكداً وأقل إحكاماً. إنه عالم التنقيحيين، حيث تسلك كل بلد سبيلها الخاص بها. وها هو الاقتصاد الدولي المعولم يتشرذم إلى كتل تجارية إقليمية، مع بعض محاولات الانفكاك في مساحات مثل التكنولوجيا العالية والمال، وفي أجواء من الندية هي الأشرس على الإطلاق بين القوى المتنافسة على الريادة الاقتصادية والزعامة السياسية. وفي خضم كل ذلك، يتشكل عالم أشد خطورة من أي شيء مضى.

آليات التجاوز والمواجهة

ينبغي على الدول أن تتعلم كيف تتعامل مع هذا العالم من القوى التنقيحية، وهو عالم ما بين نظامين، والإعداد لمستقبل غامض. يتمثل أحد الحلول في الانكفاء على الذات، وذلك ما فعلته كل من الصين والهند والولايات المتحدة وغيرها من الدول في السنوات الأخيرة، حيث يتم التأكيد على الاعتماد على الذات، بشكل أو بآخر، ومن أمثلة ذلك نموذج "التداول المزدوج" لدى الصين، وتعهد بايدن "هيا بنا نعيد بناء عالم أفضل"، والتزام الهند تحت إدارة رئيس الوزراء ناريندرا مودي بالاعتماد على الذات. وفي نفس الوقت الذي ترغب فيه الدول بأن تصبح أكثر استقلالاً من الناحية الاقتصادية، فإنها تريد أيضاً أن تكون أكثر أمناً من الناحية العسكرية. ولذك سعت جميع القوى الكبرى إلى توسيع قدراتها الدفاعية والنووية، حتى تجاوز الإنفاق الدفاعي العالمي الـ تريليوني دولار للمرة الأولى في عام 2021، وذلك على الرغم من تداعيات جائحة كوفيد-19.

ويمكن للدول أن ترد على العالم التنقيحي بشكل آخر من خلال تشكيل تحالفات آنية. شهد العقد الماضي ترتيبات كثيرة جماعية وثنائية – بما في ذلك كواد وبركس (الشراكة التي تجمع بين البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، ومنظمة شنغهاي للتعاون، وتجمع آي2يو2 الذي يجمع ما بين الهند وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة، حتى غدت كل مشكلة فيما يبدو تولد مظلة جديدة. ما من شك في أن هذه الترتيبات ومفيدة وتخدم غايات محددة، ورغم أنها قد تساعد في تمتين بعض العلاقات الثنائية، إلا أنها لا تقترب من تشكيل تحالفات متينة أو معسكرات كتلك التي كانت تشهدها حقبة الحرب الباردة.

لا مفر من أن تسعى كثير من القوى الأصغر حجماً إلى تجاوز تداعيات الانقسامات من خلال موازنة علاقاتها مع القوى الأكبر. ومن أمثلة هذا التوجه موقف رابطة دول جنوب شرق آسيا من الخلاف المضطرم بين الولايات المتحدة والصين، وتعزيز إسرائيل لعلاقاتها مع الممالك السنية في دول الخليج عبر اتفاقيات أبراهام. ومؤخراً، قاومت كثير من البلدان في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ممن لديها علاقات قوية مع الغرب، الانضمام إلى العقوبات المفروضة على روسيا بعد غزوها لأوكرانيا. لسوف يشجع مثل هذا السلوك الموازن والحامي البحث عن حلول محلية للمشاكل المحلية، سواء على شكل ترتيبات اقتصادية وتجارية إقليمية أو من خلال الحلول التي يتم التفاوض عليها محلياً لإنهاء النزاعات السياسية.

ومع ذلك لا يكفي العمل على المستوى المحلي للتعامل مع مثل هذه المشاكل العالمية. خذ على سبيل المثال أزمة الدين. فقد دفع عجز سريلانكا عن سداد دينها والأزمة الاقتصادية الناجمة عن ذلك الحكومة في هذا البلد الجزيرة نحو الميل على جيرانها داخل شبه القارة، حيث توفر الهند الطعام والوقود والاعتمادات المالية بمعدل 3.8 مليار دولار. ومازال منتظراً أن يبادر الدائنون الأجانب، بما في ذلك داخل الصين وفي الغرب، إلى إعادة جدولة دين سريلانكا. لطالما رفضت البلدان الثرية، وعلى مدى سنين، الدعوات التي وجهت إليها لإعادة جدوة الدين أو لإلغائه لتخفيف العبء عن البلدان النامية التي تئن تحت وطأة العجز. لكن من غير المحتمل أن يبادر أحد بمنح البلدان النامية المثقلة بالديون هبوطاً ناعماً. وقد يتكرر الكلام عن احتمال انهيار سريلانكا. على كل حال، عالم التنقيحيين هو عالم بين الأنظمة حيث لا يتم التطرق لقضايا العصر الكبرى مثل انعدام المساواة في التنمية، والتغير المناخي، والجوائح والأوبئة.

في مهب الريح

وإذ يتفسخ النظام القديم ويمر الجديد بمخاض ولادة، تكمن الفوائد لدى الدول التي تدرك بوضوح ميزان القوى ولديها تصور للمستقبل التعاوني الذي يعود بالخير على الجميع. من المؤسف أن قدرات كثير من القوى الكبرى تناقصت، ولا يبدي كثير من زعمائها أدنى اهتمام بالشؤون الخارجية، وبإدارة الأزمات أو بحل المشاكل العابرة للحدود، وبشكل خاص حينما تجعل التنقيحية المتفشية الأزمات أكثر احتمالاً وأكثر خطورة. ونتيجة لسياساتها المحلية المشاكسة، لا يوجد من بين القوى التنقيحية البارزة من لديه رؤية مقنعة حول طبيعة التغيير المطلوب. كما أنه لا يحتمل أن يقدم ميزان القوة المتغير بسرعة بالغة الأساس المناسب لنظام مستقر لبعض الوقت. بدلاً من ذلك سوف تتنقل القوى في الأغلب بين الأزمات واحدة تلو الأخرى بينما يتنامى سخطها على النظام الدولي وعدم رضاها من بعضها البعض، في نوع من الحراك الفاقد للحركة.