كتاب عربي 21

الدولة إذ تحدّد من يحفظ القرآن.. جذور القضية!

1300x600

يمكن ملاحظة حضور مجموعة من المفاهيم السياسية الحديثة من حيثية تجسيد السلطة السياسية لها، على نحو ما، في وعي بعض السلطات القديمة وممارستها، كالسيادة مثلا، وهي قضية تبدو مفهومة في قول فرعون "أَلَيسَ لي مُلكُ مِصرَ وَهذِهِ الأَنهارُ تَجري مِن تَحتي أَفَلا تُبصِرونَ"، وكذلك مركزة السلطة، في إشارته لجريان الأنهار من تحته، بما لذلك من دلالة على موقع السلطة المركزي في إدارة الموارد ومن ثم ما يتعلّق بها من أرزاق الناس، أو رعاية السلطة للناس بما يستدعي حقّا للسلطة على الناس، واحتكار العنف، كما في قول الذي حاجّ إبراهيم عليه السلام في ربه لمّا قال: "أَنا أُحيي وَأُميتُ".

يبدو أنّ علّة الوعي بهذه المفاهيم، كانت في لون من المركزية تمتعت به تلك السلطات، التي بدت ربما حينها تجسيدا لمجتمعات قائمة على جريان الأنهار، واحتاجت ضربا من التعاقد الاجتماعي، الصريح أو الضمني، يمنع الفوضى أو العنف في استثمار تلك الأنهار والأراضي المحيطة بها، وقد تجلّت هذه المركزية المدهشة في تلك المجتمعات القديمة في قصة يوسف عليه السلام.

من الممكن جدّا أن يتوقع المرء، والحالة هذه، أنّ القيمة الكبرى ليوسف عليه السلام، لم تكن فحسب في حماية المنطقة من المجاعة، وإنما أيضا في حماية الناس من استعباد السلطة السياسية لهم، حين اشتداد الحاجة لمزيد من المركزية في التحكّم في استثمار النهر والأراضي المحيطة به، في حين تشتد حاجة الناس للقوت والغذاء.

القيمة الكبرى ليوسف عليه السلام، لم تكن فحسب في حماية المنطقة من المجاعة، وإنما أيضا في حماية الناس من استعباد السلطة السياسية لهم، حين اشتداد الحاجة لمزيد من المركزية في التحكّم في استثمار النهر والأراضي المحيطة به، في حين تشتد حاجة الناس للقوت والغذاء

ولعل التمهيد القرآني لانتقال يوسف عليه السلام من السجن إلى الملك، غير بعيد عن ذلك، فقد بدأ بحوار دعويّ في السجن، أكد فيه يوسف عليه السلام على معنى التوحيد بصيغ متعددة، من الآية 37 وحتى الآية 40 من سورة يوسف. إذ لم يكتف يوسف عليه السلام، بالتأكيد على انخلاعه هو وآباؤه من أيّ شرك، وإفرادهم الله تعالى بالعبودية، بل تجاوز ذلك لتقرير المسألة من حيث الأصل، وصولا إلى نقد الواقع الاجتماعي والديني والسياسي في مصر على نحو محكم أتى على القضية من أطرافها كلّها بقوله: "ما تَعبُدونَ مِن دونِهِ إِلّا أَسماء سَمَّيتُموها أَنتُم وَآباؤُكُم ما أَنزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلطانٍ إِنِ الحُكمُ إِلّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ".

بل إنّ يوسف عليه السلام بدأ موعظته بقوله: "لا يَأتيكُما طَعامٌ تُرزَقانِهِ إِلّا نَبَّأتُكُما بِتَأويلِهِ قَبلَ أَن يَأتِيَكُما ذلِكُما مِمّا عَلَّمَني رَبّي إِنّي تَرَكتُ مِلَّةَ قَومٍ لا يُؤمِنونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُم كافِرونَ"، وهو أمر لافت أن يجيبهما عن غير ما سألاه عنه، وهو تأويل الرؤى، إذ التفت إلى الحديث عن الطعام الذي يرزقانه، إلا إذا قصد أن توقيت تأويل الرؤيا هو مجيء الطعام للسجناء. ولذلك اختلف المفسّرون في سرّ هذه الالتفاتة، فإن كان قصده أن موعد تأويله للرؤيا مرتبط بموعد طعام السجناء، فثمّة إذن توقيت معلوم، لا يختلف ولا يتغيّر عادة، ترسل فيه "إدارة السجن" الطعام للسجناء، أو يأتي به الأهل في موعد زيارة محدّد، الأمر الذي يشير إلى هذا النمط المركزي من الحكم، وإن كان الأمر غير ذلك، فلعلّ يوسف عليه السلام أراد بيان أن الله هو الذي يطعم ويسقي، واختار الطعام حصرا لكونه مصدر أساس في شرعية السلطة السياسية التي يُحِلّ فيها الناسُ الألوهيةَ.

تتحوّل السلطة السياسية إلى معطى طبيعيّ (من الطبيعة) لا يشكّ فيها الناس، إذ تنغلق على الوعي الإنساني، الذي يقصر خياله عن ملاحظة الوجود خارجها، فالاعتياد الطويل يجعلها كأنها بنية قبلية، جادت بها الطبيعة، التي هي نفسها تجود بالماء والطعام والحياة، وتسلب ذلك، ولأنّ الفرد ينشأ وهذا الحال، لا يتصوّر الطبيعة بلا سلطة.
تتحوّل السلطة السياسية إلى معطى طبيعيّ (من الطبيعة) لا يشكّ فيها الناس، إذ تنغلق على الوعي الإنساني، الذي يقصر خياله عن ملاحظة الوجود خارجها، فالاعتياد الطويل يجعلها كأنها بنية قبلية، جادت بها الطبيعة، التي هي نفسها تجود بالماء والطعام والحياة، وتسلب ذلك، ولأنّ الفرد ينشأ وهذا الحال، لا يتصوّر الطبيعة بلا سلطة

وبالرجوع إلى قصّتي يوسف وموسى عليهما السلام، يظهر تطاول الزمن على الناس وهم يتعاقبون داخل هذا النموذج، وصولا إلى تجسيدهم الطبيعة في السلطة، فعبادتهم السلطة، مع استثناءات مثّلتها دعوة يوسف عليه السلام والتي ميّزت بين السلطة والطبيعة، وإلى مصدر العطاء المتجاوز لكليهما، غير الحالّ في شيء من عطاءاته.

جدل الطبيعة والسلطة، يتضح في سؤال فرعون الاستنكاري الساخط "أَلَيسَ لي مُلكُ مِصرَ وَهذِهِ الأَنهارُ تَجري مِن تَحتي أَفَلا تُبصِرونَ"، فملكه كالأنهار، معطى طبيعي، ولأنّ هذه كذبة كبرى، وصف القرآن علاقته بقومه بالاستخفاف. وكذا الذي حاجّ إبراهيم عليه السلام في ربه، لمّا زعم أنه يحيي ويميت، أحاله إبراهيم عليه السلام إلى معطى طبيعي شديد البساطة والتجريد من حيث ظهوره، وهو شروق الشمس وغروبها، فبهت الذي كفر، إذ إنه غير قادر على التحكم في مسارات الشمس.

عبد الإنسان الطبيعة، الشمس والقمر وغيرهما، وبدا الإنسان عاجزا في نزوعه نحو القوّة العليا؛ عن تصوّرها مفارقة للطبيعة، غير حالة فيها، فحتّى حينما آمن بها مفارقة سعى إلى تجسيدها، فصنع الأوثان، والمعابد التي لا تشير إلى مفارق، وإنما تحوي داخلها الآلهة، أو تجسّد الآلهة، فلما كان الأمر كذلك، سهل أن تتحوّل السلطة المركزية إلى إله بدورها، معلن، كما في حالة فرعون، يقول للناس صراحة "أَنا رَبُّكُمُ الأَعلى"، و"مَا عَلِمتُ لَكُم مِن إِلهٍ غَيري"، إلا أنّ كلمة السرّ التي تلتقطها كل سلطة سياسية تتمتع بحكم مركزي، هي مقولة فرعون "ما أُريكُم إِلّا ما أَرى وَما أَهديكُم إِلّا سَبيلَ الرَّشادِ". سيغدو الأمر الآن مفهوما حينما يقال: لا يجوز لك أن ترى شيئا غير الذي تراه الدولة، ولا رشاد إلا في ما تشرّعه الدولة، فالدولة حينئذ إله ضمنيّ، وإن لم تسمّ نفسها كذلك!

من مطابقة الحاكم مع الطبيعة، إلى تجسيد الإله في الوثن أو المعبد.. البعد المادي في هذه التصورات، وصل إلى تصوّر ألوهية ضمنيّة متمثلة في علاقة عضوية بين الأرض والشعب، والدولة هي المجسّدة لهذه العلاقة، ومن ثمّ يُزاح المعبد تماما، أو يزاح عن المركز، وتصير الدولة المركز الذي يُطاف من حوله، ويُطلب رضاه، ويُعمل حصرا بتشريعاته.

ليس ثمّة حاجة بالضرورة إلى نفي كامل للمعبد، وإنما يُقصى عن المركز، لأنّ المركز هو الدولة، وتعبّر عن نفسها بتراتبية رمزية وهيكلية، من العلم، والنشيد، ومبنى البلدية، والشرطة، والقضاء، والبرلمان، والجيش، ورئاسة الجمهورية.. الخ. أقانيم متعدّدة للدولة الواحدة، والاختلاف بين الدول، ديمقراطية وغير ديمقراطية، في عدد هذه الأقانيم وفاعليتها، وإلا فالدولة هي التي تزرع في الناس عيونها، فلا يرون إلا ما ترى، وتحصر حركتهم في سبيلها الوحيد الذي هو بحسبها "سبيل الرشاد".

حينما يُقصى المعبد عن المركز، الدولة تحدّد مجالات اشتغال المعبد، فيستمد المعبد مكانته من الدولة، لا من أصله المفارق كما ينبغي، فهي التي تحدّد له كلّ شيء، ولو أنّها كفّت عن ممارسة السلطة على تفاصيل المعبد، فإنّها تكتفي بكونه في الهامش، لا مصدرية له. فالقيم والتصورات والتشريعات كلّها نابعة من الدولة، ومن التدافعات التي تسمح بها الدولة وتديرها، وتشكّل منطقها في إدارة التناقضات الداخلية. إنّها التي تحمي الناس من بعضهم، وضمانتهم للأمان، بالاستبداد، أو بالديمقراطية، فالتناقضات البشرية، تقمعها الدولة، أو تديرها، والمعبد في ذلك كلّه ثاوٍ في الهامش.
السؤال عن حقّ الدولة في تحديد من يحفظ القرآن لا يكاد يسأله أحد، فمناقشة الدعوى والدافع دون المستند الأصلي (أي حقّ الدولة)، يعكس تصوّرا ينطوي على تسليم غريزي بالدولة ومنطقها، أو توهّم المشكلة في الحكومة والنظام السياسي فحسب، دون مناقشة أصل الدولة ونزوعها الكلّياني للهيمنة

حينئذ لن يكون مستغربا من وزير أوقاف في بلد مسلم، بما هو ممثل للدولة، أن يحدّد للمسلمين في بلده من يحفظ القرآن ومن لا يحفظه، وأن يفترض أن حفظ طفل في الروضة أو المدرسة للقرآن يتضادّ مع دراسته، وأن يستند في ذلك "إلى قانون التعليم وقانون الجمعيات وواجبه الديني وشرع الله قبل كلّ شيء"، ولأنّ شرع الله لا يسعفه في ما ذهب إليه، فإنه لا يبقى إلا قانونا التعليم والجمعيات لتحديد ما هو شرع الله مما يصلح للطفل ولا يصلح له في علاقته بالقرآن.

في حادثة كهذه، سينشغل الناس بتفنيد دعوى الوزير، أو البحث عن الدوافع السياسية لقراره بالتضييق على النوادي القرآنية، وبعض جمعيات تحفيظ القرآن، لكن السؤال عن حقّ الدولة في تحديد من يحفظ القرآن لا يكاد يسأله أحد، فمناقشة الدعوى والدافع دون المستند الأصلي (أي حقّ الدولة)، يعكس تصوّرا ينطوي على تسليم غريزي بالدولة ومنطقها، أو توهّم المشكلة في الحكومة والنظام السياسي فحسب، دون مناقشة أصل الدولة ونزوعها الكلّياني للهيمنة على كلّ ما يقع في ما تجسّده (مركّب الأرض والشعب)!

 

twitter.com/sariorabi