قضايا وآراء

شيرين أبو عاقلة: "اخترت الصحافة لأكون قريبة من الإنسان"

1300x600
شيرين أبو عاقلة.. ذلك الصوت الدافئ الهادئ الحزين المعبر عن الوجع الفلسطيني الذي أحبه الفلسطينيون وأحرار العالم، وذلك الوجه الطفولي البريء الذي مثّل صوت الحقيقة برهافة أنثى رقيقة وقوة أسد هصور.. وذلك الأداء الواثق الذي يشبه أداء طفلة ذكية تواجه ترسانة حربية وإعلامية بمنطق العباقرة ولسان صاحب الحق، مستلهمة ذلك من قدسية القضية وعدالتها.. لكن لم يرق لهم هذا الصوت النافذ ولا الوجه البريء الذي يقاتل بالكلمة ويعرض الحقيقة؛ فاغتالوه بدم بارد..!!

لقد جمعت شيرين إلى الوداعة قوة المنطق، وإلى رهافة الحس قوة الموقف، وإلى الوطنية رحابة الإنسانية، فكانت نموذجا إنسانيا فلسطينيا فريدا.. كانت على ثغر، ككل فلسطيني حرّ يأبى الخضوع والانكسار، ولا يختار الصمت لسلامته وأمنه الشخصي.. لقد مثلت شيرين أمّة الإعلام وأمّة الموقف وأمّة النساء القادرات على الفعل الناجز المعبر المخترق لكل حواجز الخوف والقمع الذي اتخذته قوات الاحتلال منهجا وأسلوب حياة..
لقد مثلت شيرين أمّة الإعلام وأمّة الموقف وأمّة النساء القادرات على الفعل الناجز المعبر المخترق لكل حواجز الخوف والقمع الذي اتخذته قوات الاحتلال منهجا وأسلوب حياة

لم تنتقِ شيرين أبو عاقلة كلماتها، ولم تنمق جملها، ولم تبحث في قواميس اللغة عن مفردات مؤاتية كما يفعل الشعراء، فقد كان يكفيها أن تأخذ من قاموس الوطن.. قاموس الوجع والحرمان والحصار.. قاموس الأمل بمستقبل أفضل؛ لتجيء كلماتها سلسة كالماء.. قوية كالرصاص.. ثائرة كالبركان، فتدخل إلى أغوار قلوبنا وأعماق وجداننا، فتهزنا من الأعماق، وتبقينا على وعد بالنصر ووعد بالتحرير.. لقد كانت صوتنا جميعا.. صوت فلسطين ومحبي شعبها والمتعاطفين مع حقوقهم في آن معا..

ذلك الجمال وتلك الأناقة الفطرية الحاضرة حضور الماء والهواء في سماء الإعلام العربي والعالمي، سافرت بعيدا ولن تعود، لكن وقع خطاها وهي تمضي مع الشفق مودعة حياتنا تترك للتاريخ أحافير لا تحتاج إلى مقتص أثر، أو محلل بصمات، فقد تركت خلفها تراثا من العزة والإباء وأسفارا من المجد، ليست كتلك التي حملها بنو إسرائيل فناؤوا بها، واختلفوا فيها؛ فهي مصدر إشعاع سيظل حاضرا في تاريخ الصحافة العالمية وتاريخ فلسطين الحديث.

حتى وهي ميتة شكّلت شيرين حالة رعب لقوات الاحتلال، فحاصر جنازتها واعتدى على مشيعيها الذين يحملون نعشها.. ذلك العدو الجبان الذي يدعي الديمقراطية هو ذاته الذي لم يرق له -وهو القاتل- أن يترك الجنازة تمارس عرسها الفلسطيني والإنساني ويده ملطخة بدمها، أو يظل على مسافة منها؛ فتلك عصابة مجرمة، تمثل أعتى قوة ظالمة مستبدة على وجه الأرض..
وهي ميتة شكّلت شيرين حالة رعب لقوات الاحتلال، فحاصر جنازتها واعتدى على مشيعيها الذين يحملون نعشها.. ذلك العدو الجبان الذي يدعي الديمقراطية هو ذاته الذي لم يرق له -وهو القاتل- أن يترك الجنازة تمارس عرسها الفلسطيني والإنساني

كانت كاميرا شيرين أبو عاقلة وصوتها الهادئ المعبر أقوى من رصاص الغدر، فقد تحولت من إنسانة وديعة تحبها قلوب الملايين إلى رمز من رموز العمل الوطني في وجه الآلة العسكرية الغاشمة للاحتلال البغيض الذي يجثم على صدور الفلسطينيين، وأحسب أن الرد على هذه الجريمة سيكون قريبا..

ماذا كان مخبأ لك في الغيب يا شيرين؛ ليلتف العالم كله حولك، ولتجدي كل هذا الحب والحدب والتعاطف من القريب والبعيد؛ فلم يحظ صحافي أصابته رصاصة غادرة من قبل، بما حظيت به؟ حتى أولئك السياسيون الذين لا تروق لهم قناة الجزيرة وجدوا أنفسهم في قلب الحدث، وبعضهم غالبته دموعه في مشهد عاطفي عالمي كبير، فالتنديد بالقتلة كان مغايرا هذه المرة، لم نجد له شبيها من قبل..
ستظل شيرين مصدر إلهام للصحافة الحرة، ولحرية الإنسان، وهي التي قالت: "اخترت الصحافة لأكون قريبة من الإنسان".. لقد كانت حقا قريبة من الإنسان، فلم يكن صوتها صيحة في واد، ولا نفخة في رماد، بل كان الإعجاز والصدق والحقيقة في أجلى صورها

لقد تعاطف معك وتحدث عنك ملوك ورؤساء وساسة كبار، وانحازت لدمك منصات الأمم المتحدة وبرلمانات وحكومات، وفجع بك مجتمع الإعلام العربي والدولي، وبكاك كل الطيف الفلسطيني بكل فئاته وتنوع فكره وثقافته.. لم يبق أحد لم يبك غيابك يا شيرين؛ إلا أولئك الذين وصلت خيانتهم حد الانصهار في الحالة الصهيونية؛ وهذا مؤشر لا يحتاج إلى دليل على أنك كنت تمثلين التفرد ورفض العادي الذي تفرضه الوظيفة؛ فقد مثلت حالة الصعود الاستثنائي، وكنت فوق وظيفتك كمراسلة صحافية، وفوق كل بنود عقدك مع الجزيرة، لأنك كنت تمثلين وطن الأحرار ووطن الصمود الأسطوري لشعب كنت أيقونته المضيئة وسط عتمة الأداء الإعلامي العربي..!!

ستظل شيرين مصدر إلهام للصحافة الحرة، ولحرية الإنسان، وهي التي قالت: "اخترت الصحافة لأكون قريبة من الإنسان".. لقد كانت حقا قريبة من الإنسان، فلم يكن صوتها صيحة في واد، ولا نفخة في رماد، بل كان الإعجاز والصدق والحقيقة في أجلى صورها وأسمى معانيها..