كتاب عربي 21

سوق السنّة الأخرى: الثروات الكبرى

1300x600

تعجّ صفحات التواصل بأقوال الحكمة وثرثرات الطرافة. لم تكن الحكمة والشعر سهلة كما هي اليوم. ويتجول صحافيون على "بسطات" الصفحات، فيستطرفون بعض بدائع القول والكلم، وجواهر النثر والنظم، ويعرضونها على صفحاتهم الأنيقة، فتزداد بريقاً. ومعظم الأقوال تشوب اللبن بالماء، وتهدر الحق في سبيل الاستطراف والتجمّل، وتتبع الغالب، والناس على دين ملوكهم ونجومهم ومطربيهم.

وقد زعمت إحدى "الحكيمات" أنه عندما مات عباس بن فرناس وهو يحاول الطيران، ‏تساءل العرب: هل مات شهيداً أو منتحراً؟ وتساءل الغرب: ترى هل يمكن الطيران؟ ‏فطار الغرب، وانتحر العرب. لنذكر أن البوعزيزي حاول دفع عربة خضار، وليس الطيران، فكان مصيره الانتحار يأساً وقنوطاً.

عباس بن فرناس عالم مسلم، لُقّبَ بحكيم الأندلس، برع في الفلسفة والكيمياء والفلك. وعاصر الأمراء؛ الحكم بن هشام وابنه عبد الرحمن، وحفيده محمد، وكان منهم مقرباً ومن شعراء البلاط الأندلسي، حتى أن عبد الرحمن بن الحكم اتخذه معلماً له لعلم الفلك، وكان شاعراً لبيباً، وماهراً في فنِّ الموسيقى وعزف العود. له عدة اختراعات، مثل "الميقاتة"، وهي ساعة مائية، وتلسكوب "ذات الحلق"، والنظارة الطبية، والزجاج الشفاف، وهو مخترع أول قلم حبر في التاريخ، وقضى راكباً صهوة الريح.

انتشر قول لأحد فرسان هذا العصر المناكيد، وهو كاتب مصري يظهر كثيراً على فضائيات السيسي، جاء فيه: هل تعلم أنّ أهل الكهف المؤمنين المذكورين في القرآن كانوا مسيحيين من تركيا من افسس! معظم أصحاب هذه الأقوال يبرزون من الخبر ذيله، أنصاف الحقائق أكاذيب بديعة. تذكّر صحافيو وسائل التواصل النادبون غير مأجورين التفاحة العظيمة التي جعلت من نيوتن عالماً، وتفاحة ستيف جوبز التي صارت رمزاً لأنظمة أبل، أما العرب، فاحتاروا في لغز التفاح، فلم يلهمهم سوى معسل التفاحتين، وهي حكاية تلبيسية أيضاً مثل قصة عباس بن فرناس.

والحقيقة هي أنّ محمد علي باشا الذي تولى حكم مصر بعد أن غدر بالمماليك وتحالف مع الفرنسيين، أحضر التدخين والمعسل من ألبانيا إلى مصر، ويظهر غالباً في اللوحات التي رسمها له الرسامون وهو يدخن النرجيلة في مجلس الحكم!

ينقل أحد فتّاك المعاني في وسائل التواصل الاجتماعي، مقالاً عن شبكة محاربة الخرافات والبدع (لاحظ الاسم الكبير) موثقاً أقواله بوثائق من الطبري وابن كثير والسيوطي عن أعداد النساء اللواتي سباهن المسلمون من غزو الأمم "المسالمة"، مثل الروم والفرس، التي كانت "تهوى جمع الفراشات من الحدائق، والأصداف من سواحل البحار، ولا يكتب قادتها وملوكها سوى الشعر". ويوصف المؤسس الثاني للدولة الأموية عبد الملك بن مروان بأنه كان "مجنونا" بالنساء، بدليل وصية له شهيرة ينصح فيها بحسن اختيار الجواري، فقال: من أراد أن يتخذ جارية للمتعة، فليتخذها بربرية، ومن أرادها للولد، فليتخذها فارسية، ومن أرادها للخدمة، فليتخذها رومية.

وهو قول لا نستطيع أن نردّه، ويحمد أنها غير عنصرية، لولا أنّ وصف جنون وصف ظالم وفاسد، أما عن سبي النساء، فهو صحيح، فالحروب مصير محتوم، فإما غازٍ وإما مغزو، وفي الحروب يُقتل الرجال وتسبى النساء أو تغتصب، وقد سبى المسلمون النساء في عصر السبي، وجعلوهن أمهات أولاد، فأنجبن الملوك والخلفاء، ولم يفعلوا مثل الفرنجة الذين قتلوا الأطفال وأكلوا لحومهم، والأمريكان الذين أبادوا شعوباً، ولم يُبقوا منها سوى الشهود. تقول وثائق الحرب العالمية الثانية إنّ الحلفاء اغتصبوا مليوني أنثى ألمانية، غير مفرقين بين بكر وثيب، طفلة وعجوز!

وتكثر أقوال منسوبة إلى جلال الدين الرومي وعلي شريعتي الذي يقول: إنّي أفضّل المشي في الشارع وأنا أفكّر في الله على الجلوس في المسجد وأنا أفكّر في حذائي. وإن إطعام جائع خير من بناء ألف جامع..

يظهر من القول أنّ علي شريعتي لم يكن يعرف أسعار صناعة القنابل النووية والأسلحة شاملة التدمير، وأنه أحد آباء مقبّلي جزم الجنود على الشاشات.

يقول أحد حكماء العصر: نحمد الله أنَّ العرب لم يفتحوا من أوروبا سوى إسبانيا، وإلا ما وجدنا بلداً نلجأ إليه من الظلم. لقد احتلت عاصمة النور فرنسا الجزائر نحو قرن ونصف القرن، ونشرت فيها بدلاً من النور المجازر، حتى بلغ عدد الضحايا أكثر من ١١ مليون ضحيّة. هناك فيديو شهير لنائبة إيطالية تذكر فيه "مناقب" فرنسا في أفريقيا ونهبها ثرواتها. أما علي الوردي، وهو باحث عراقي معروف، فينقل عنه محبّوه قوله إنه يفضل رقص الفتيات الهنديات أكثر من صلاة والديه. ولأنه باحث قدير يبين السبب؛ ذلك لأنهم يرقصون بالحب والعاطفة، لكن والديه يتلوان صلواتهما على الاعتياد.

لندع الحكيم علي شريعتي سعيداً بنعله الذي خلب لبّه وشغّله عن دينه، وعلي الوردي مستمتعاً بالرقص الهندي والحب والعاطفة على برِّ والديه، ونقرأ عظة للشاعر سليم بركات، وهو ينتفض غاضباً لعيد الأم، مستنكراً قول الشاعر حافظ إبراهيم:

الأم مدرسة إذا أعددتَها   أعددتَ شعباً طيبَ الأعراقِ

فينكر عليه كثرة مفردات الذكورية، ويعيب قوله، فالذكر في بيته هو الذي يربي الأنثى. بركات يريد الأنثى أن تربي نفسها بنفسها، على ملة الدين الجديد. انتهى زمن الآباء، على ما يشيع في كتابات الحداثيين ومشعلي وبنّائي جدار الفصل بين الذكر والأنثى، ويذهب بركات إلى أنّ هذا البيت يحتقر الأم! ويعظنا قائلاً: لا ترددوا هذا البيت.

سمعت للشاعر لقاءً على فضائية عراقية يسخر من داعية أمّه له، التي يتصل بها بين الحين والآخر، بالصلاة، ويضحك من قولها ضحكةً لها صكّة.

الأقوال المذكورة غيض من فيض، تجمعها خصائص؛ هي أنها حسيّة، ناكرة للفضل، متمردة، ومستلبة، أما الواعظ الأخير الذي يأمرنا بأن نكفَّ عن ترديد بيت حافظ إبراهيم فنقول:

أوامرك أيها الفحل.

 

twitter.com/OmarImaromar