مقالات مختارة

نحن وإسرائيل والعالم.. والتغير الواجب

1300x600

يبدو تغيير النظام العالمي الحالي برمته أسهل من تحويل إسرائيل إلى دولة غير استعمارية وغير عنصرية وغير نووية، وبالتالي من سلام حقيقي في الشرق الأوسط والعالم.

 

فإن كان السلام العادل يقوم على المساواة في الحقوق وفي السياسة وفي السيادة، فإنه يقتضي من كل بد نزع نظام الأبارتهايد الإسرائيلي من أجل المواطنة، ونزع التكوين الاستعماري من أجل المساواة السياسة، ونزع السلاح النووي من أجل المساواة السيادية.

 

وهذا كله نقيض الوعي الذاتي المتعضي في الكيان الإسرائيلي مثلما نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وتطور خلال ما يقترب من ثلاثة أرباع القرن. الغرب المعاصر، الأوربي والأمريكي، كفيل لعدم المساواة، وبالتالي لامتناع السلام العادل، وليس خافياً على كل حال أنه كفيل للتفوق الحربي الإسرائيلي الحاسم.


تتلاقى في هذ الكفالة اعتبارات جيوسياسية معاصرة باعتبارات جيوثقافية أقدم، ثم بتكون الضمير الغربي المعاصر حول ديْن كبير لليهود بفعل جريمة الهولوكوست الاستثنائية.

 

وصل الأمر بالمستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل إلى أن تقول في كلمة لها في جامعة تل أبيب في شباط 2011 إن «التزامنا بأمن إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية هو من علل وجود ألمانيا».

 

كان يمكن لتصريح ميركل أن يستقيم لو كانت إسرائيل أقيمت على أراض من ألمانيا، أو ربما منها ومن بولونيا، على ما كان يجب بالفعل أن يتحقق تكفيراً عن الجريمة النازية الرهيبة.

 

أما أن يكون أمن إسرائيل علة وجود لألمانيا، وبالتالي تكون ألمانيا علة عدم لفلسطين وشعبها، فهو من آيات عدم القدرة على التفكير من موقع الآخر، أي منبع للشر حسب حنه آرنت.

 

ومعلوم أن آرنت طورت تصور الشر هذا عبر دراسة إحدى الشخصيات النازية في الهولوكوست: أدولف آيخمان.

 

بخصوص فلسطين، المسؤول الغربي النمطي آيخماني، عاجز عن أن يضع نفسه موقع الفلسطيني.

 

على أن عدم استقامة الجمع بين يهودية إسرائيل وديمقراطيتها، وتطرف تصريح ميركل المعتدلة عموماً، هو أدعى لأخذ مضمونه بعين الجد.

 

الأقوال التحكمية التي لا تصمد أمام منطق أخلاقي متسق تقول ما يكونه الناس وما يُكنِّه ضميرهم.


عربياً، يمكن أن يقال ما تقدم عن تأصل إسرائيل في بنية النظام العالمي المتمركز غربياً لأحد غرضين. أولهما إثارة مزيد من العداوة للغرب، ما ينفتح إما على عنف عدمي، ليس غير سياسي فقط ولكنه غير حربي كذلك من جهتنا (حربي منحط إن شئنا، أو «إرهابي»)؛ أو على تسليم بواقع الحال، يمتزج فيه كره اجتماع وثقافي شديد للغرب بالتعايش مع أوضاع فاسدة ومتخاذلة ولا إنسانية في بلداننا، ومع تمني أن «يضرب الله الظالمين بالظالمين ويُخرِجنا منهم سالمين» وهو موقف سُمِعتْ تنويعات منه عقب الغزو الروسي لأوكرانيا.


والغرض الثاني هو تسويغ مراضاة إسرائيل و«التطبيع» معها، بالنظر إلى أننا لا نستطيع محاربة أمريكا على ما قال أنور السادات في أيامه، ومثلما تفعل الإمارات وتقود معسكراً عربياً متسعاً. على أنه يمكن لما تقدم أن يُقال بغرض إخراج الصراع مع إسرائيل ورعاتها من هذه الاستجابات المرضية، ونقله إلى السياسة حين السياسة تعني إدارة أمورنا في العالم من حولنا بحيث نقلل الخسائر والأعداء ونعزز فرص الكسب وجبهة الأصدقاء.

 

وقبل ذلك بغرض أن تتكون لنا نحن سياسية عقلانية، تمييزاً عن نحن هويتية، منفعلة تحت سياسية وتحت واعية، تشمت وتسعى وراء «شفاء الصدور» و«إرواء الغليل» وضرب الظالمين بالظالمين.

 

أعني نحن تستطيع أن تحسب وتكسب، فتتجنب معارك خاسرة، وتتجنب أكثر استخداماً وظيفياً لقضية فلسطين التي هي لب الصراع مع المشروع الإسرائيلي، وإن لم يُستنفد فيها. وبينما لا يقتضي ذلك حتماً تجنب المقاومة المسلحة، فإنه يقتضي تجنب حروب الدول.


وهذا ما تحقق فعلاً ومنذ عقود. دولنا استخلصت الدرس منذ عام 1973 فلم تدخل في حروب مع إسرائيل، نخسر فيها حتماً وتستنفر قوة الغرب المسلحة ضدنا. لكن إذا كانت حروب الدول ضد العدو غير ممكنة، فلا بد من إعادة بناء الدول ذاتها حول شيء يعوض هذا النقص السيادي الفادح.

 

وهذا الشيء لا يمكن إلا أن يكون إصلاح نظمنا السياسية والقانونية والاجتماعية على نحو يؤسس لنحن أكثر عقلانية، تدير أمر وجودها في عالم ليس من صنعنا بأقل الأضرار وأكبر المكاسب، أي بما يضعنا في أوضاع أفضل من أجل الصراع مع العدو.


إن لم يحصل ذلك، وهو لم يحصل، عوضت الدول نقصها السيادي، أي نقص دوليتها (بالنظر إلى أن السيادة مقوم جوهري للدولة) بحروب من نوع آخر: الحرب ضد الإرهاب مثلما جرى بالفعل في سورية، وفي مصر المسالمة لإسرائيل منذ نحو 45 عاماً، وفي عموم المجال العربي.

 

هذا علماً أن «الإرهاب» ذاته، وليس الحرب ضده وحدها، يمكن أن يفهم كتعويض عن النقص السيادي للدول، وذلك عبر إعادة تشكيل الدين أو الرابطة الدينية للنهوض بعبء الحرب الذي تفشل الدول في حمله. وهكذا يجري تعويض النقص السيادي بـ«الإرهاب» وبالحرب ضده في آن معاً.

 

وهذا مصدر فساد هائل للدين والدولة معاً. عالمنا العربي يعيش منذ عقود النزاع العنيف بين دين ذي جينات امبراطورية وفوق سيادية إن صح التعبير، وبين دول تابعة وناقصة السيادة.


لم يجر نقاش حول تحدي النقص السيادي وسبل الاستجابة له. وهذا ربما بسبب الخوف من مزايدات من كل نوع، ولكن أساساً بفعل غياب فضاءات عامة للنقاش، نختلف فيها بصور مثمرة.

 

انتهينا إلى أوضاع يستحيل فيها النقاش فعلياً، يسكت فيها العاقلون كيلا يهانوا، ويتخلى بعضهم عن شيء من عقلهم بالدخول في المواجهة بشروط سيئة، أو ينزلق آخرون إلى مجاملة الانفعالات العامة، فلا يبقى لدينا عاقلون متكلمون. نصير كلنا مرضى.


فإذا كان نزع استعمارية إسرائيل وعنصريتها ونوويتها شروط للعدالة ولسلام مستدام في منطقتنا، فإن من شروطها كذلك معالجة جذرية لأحوالنا، تتمركز حول تعهد السياسة في الداخل والعمل على اكتساب القدرة على الدفاع عن النفس في مواجهة المعتدين، بما يسهم في رأب الصدع الديني الدولتي.

 

بكيانات سياسية على رأسها أمثال بشار الأسد والسيسي وبن سلمان وبن زايد وعبدالله الثاني وميشال عون وقيس سعيد ومحمد السادس وتبون، ليس ثمة فرص لتجاوز الانقسام الديني الدولتي.

 

بالعكس، هذه شروط لا تكف عن توليد مجموعات مثل حماس وحزب الله والجماعات الجهادية، يجمعها أنها تشكيلات دينية سيادية (وليس سياسية فحسب) أي أنها في آن منابع للانقسام الاجتماعي في مجتمعات متعددة فكريا ودينياً، وللمنازعة السياسية في مجتمعات دولها ناقصة.


قد يكون صحيحاً جزئياً أن إسرائيل المرعية غربياً من منابع التعفن العنيف لأوضاعنا في المجال العربي، لكن الصحيح أن هذه الأوضاع العنيفة المتعفنة واللاأخلاقية، التي نتحمل نحن المسؤولية الأكبر عنها، لا تكاد تستحق ما هو أفضل من إسرائيل المعتدية والعنصرية، وهي بالتأكيد لا تقوي قلب أي إسرائيليين لا صهيونيين ولا عنصريين على الانشقاق عن الكيان الإسرائيلي، دع عنك التفكير في العيش في أي بلدان عربية.

 

تغيرنا العميق وحده ما يضعنا في موقع متسق مع الإدانة الأخلاقية لإسرائيل والنظام الدولي القائم على رعايتها.


فإذا أخذنا بعين الجد أن تغير النظام العالمي القائم أسهل من تغير إسرائيل الحالية، فإن الجبهة الإضافية للعرب المتطلعين إلى أوضاع عادلة لأنفسهم وغيرهم، هي العمل مع شركاء وحلفاء في العالم من أجل تغير العالم بالفعل.

 

جبهة إضافية لأن الجبهة الأولى تبقى أن نتكون في نحن عقلانية، إن لم تؤذ عدوها فهي تنفع نفسها على الأقل.

 

(القدس العربي اللندنية)