كتاب عربي 21

الأمة الإسلامية مستقبل ممكن أم حلم فلسفي

1300x600
تواضع أستاذي أبو يعرب المرزوقي فرفعني إلى درجة الزمالة، وما هي إلا زمالة إدارية فمؤجرنا واحد، إذ له عليّ سابقة العالم وعليّ له إخلاص المتعلم، وذلك في رده على مقال نشرته بموقع "عربي21" أشكك فيه في احتمال قيام الأمة الإسلامية قيامة تعيد وضعها في التاريخ، وذهبتُ إلى حد وصف الفكرة التي طرحها أستاذي بأنها وهم يعوض خيبة تاريخية كبيرة. غير أن أستاذي عيّرني في الختام بجهلي بالسياسة وحسن الاختيار (الناجم عن الجهل)، فأنا أحد الذين تحمّسوا للمنصف المرزوقي رئيسا، وقد دعوت إلى انتخاب قيس سعيد ولم يشفع لي عنده اعترافي بالجهل بالرجل قبل انكشافه.

لقد كان أستاذي يراني منقوص الإدراك جاهلا بالوقائع ولم يكشف لي هذا الاستنقاص سابقا، ولذلك سأتظاهر بأنه درس متأخر لأخفف ألم الصحبة المبنية على نقيصة مضمرة.

تقوم فكرة أستاذي على أن لهذه الأمة الإسلامية من القدرة البشرية والعلمية والمالية، ولها من الطموح ما يخولها مكانة عظيمة بين الأمم. وبفضل ما تملكه من أرصدة فإن القوى الكبرى في الغرب المسيحي ستعتمد عليها حتما (لحاجة الغرب إليها لا تفضلا منه أو عطفا عليها)، في إطار تحالف استراتيجي لمواجهة التنين الصيني والدب الروسي مجتمعين أو متفرقين. وستشكل هذه الأمة برصيدها المليار وبموقعها الوسيط بين القارات والشعوب قوة خضراء تواجه ضمن تحالفات فعالة القوتين الآسيويتين، وتبني نفسها وتستغني ربما لاحقا عن الأحلاف، إذ تتحول إلى قوة في الجغرافيا والتاريخ يسعى إليها ولا تسعى إلى أحد.

وقد مررت على مواضع كثيرة في ما ينشر أستاذي -وأنا قارئ وفي- على أن العمق الديني للتحالف الإسلامي مع الغرب المسيحي (الكتابي) ربما يكون عاملا مسهلا لمثل هذه التحالفات، وقد أكون بالغت في التأويل فاستحضرت مفاهيم الكفر والإيمان، وقد يكون مصدر الإفراط ما اطلعت عليه منذ بدايات التعلم (عندما كانت أدبيات الإخوان المسلمين تحدثنا عن مظالم المسلمين في تركستان وتغض الطرف عن فلسطين). فالأطروحة التي أجادل قد انتشر فيها قول كثير من أكثر من قلم ومن أكثر من جهة، وقبل أن تظهر بشكل منهجي عند أستاذنا وخاصة أيام التبرير الوهابي للجهاد الأفغاني والشيشاني.

يعيب عليّ الأستاذ الصديق أن تعمدت الخلط بين الحكام العرب والمسلمين والشعوب المسلمة على طول الرقعة الإسلامية، فالحكام خونة والشعوب ذكية ومخلصة وطموحة أو "فاهمة الطرح" ولكنها عاجزة ومقهورة، وقيامتها حتمية ضد حكامها من أجل تحقيق المشروع العظيم.
لم تعرف الأمة الإسلامية من نهر السنغال إلى نهر السند يوما وحدة سياسية (في كيان واحد بما في ذلك الخلافة العباسية والعثمانية)، وهذا قبل ظهور الغرب المسيحي واكتشاف أمريكا والعالم الجديد. كما لم تعرف أي نوع من التحالفات البناءة بين كيانات سياسية ذات هوى إسلامي تتفق في ما بينها على حدود دنيا (تقارب أو تشبه الاتحاد الأوروبي الحالي)

هذا موضع خلافنا الكبير ومع حفظ الود والتقدير، أرى بعين قارئ التاريخ من الوقائع ما ينفي وعي الشعوب وقدرتها (بدينها) على تحقيق هذا المشروع بقطع النظر عن فساد حكامها العرضيين في تاريخها.

لم تعرف الأمة الإسلامية من نهر السنغال إلى نهر السند يوما وحدة سياسية (في كيان واحد بما في ذلك الخلافة العباسية والعثمانية)، وهذا قبل ظهور الغرب المسيحي واكتشاف أمريكا والعالم الجديد. كما لم تعرف أي نوع من التحالفات البناءة بين كيانات سياسية ذات هوى إسلامي تتفق في ما بينها على حدود دنيا (تقارب أو تشبه الاتحاد الأوروبي الحالي)، رغم أن الحدود السياسية الحالية لم تكن مبنية بقانون أو حرس حدودي، وإذا لم يحدث هذا في التاريخ فإني لم أر سببا جديدا حادثا يؤدي إليه. لا يمكنني هنا إحصاء الحروب البينية بين كيانات تعلن (أعلنت طيلة أكثر من ألف سنة) الانتماء للإسلام وخاضت حروبا وكبرت الله وتقاتلت، وكلها تردد في جوامعها معنى الحديث النبوي: "إذا تقاتل مسلمان فالقاتل والمقتول في النار".

من هنا بدأت وعلى هذا أعتمد؛ لا من رغبتي في رؤية أمة على ورق أحلامي التي يمكن أن أصوغها في رواية رومانسية. وددت أن أستاذي شرح لنا في سياق تأسيس أطروحته لماذا أنتجت هذه الأمة دوما حكاما خونة يعملون لغير صالحها (قبل هذا الجيل من الحكام). أمامي صورة محمد علي باشا، الوالي العثماني على مصر، وابنه إبراهيم يحاربان العثمانيين لافتكاك الخلافة ويحاربان الوهابية لافتكاك المرجعية الدينية (السنية).. الخ..

لقد وجدت أن كل الشعوب ذات الثقافة الخصوصية والتي أسلمت (بالفتح المسلح أو بالدخول الطوعي) قد استحوذت على الإسلام وتملكته، مثرية خصوصياتها دون أن تتحول بالدين إلى جزء من أمة ذات كيان سياسي متعدد ومتحد في سياق جهادي، بما يجعل الخصوصي الثقافي والعرقي أحيانا بل غالبا أقوى تأثيرا وأدوم أثرا من الإسلام (النص المحرض على بناء أمة الإسلام).

لقد أشرت في مقالي إلى عمق الخلاف المذهبي (سنة ضد شيعة)، وذكرت بأنه خلاف أقدم من كل الدول التي قامت، وهو لا يزال يشق الأمة في العمق ويختلط عبر التاريخ بخطاب شعوبي (فرس ضد عرب، وفرس ضد ترك، وترك ضد عرب، وترك ضد فرس، وعرب ضد كرد.. الخ). كم مات من مسلم في هذه الحرب الطائفية منذ صفين؟ الله وحده يحصي العدد.. كم سيموت بعد؟ ها نحن نحصي الموتى في العراق وسوريا ولبنان وقريبا في تونس، حيث يكتب أستاذي منتبها قبل غيره إلى التسلل المذهبي الخبيث دون أن يقدر على رده. هل يمكن بناء أمة إسلامية بالسنة والشيعة مجتمعين؟ اعذرني أستاذي أنا لا أشاطرك هذا التوقع الحالم (الواهم). ووجب أن تعيّرني أيضا بأني آمنت يوما بحزب الله، فهي نقيصة أخرى قبل حماسي للمرزوقي وقيس سعيد.
عمق الخلاف المذهبي (سنة ضد شيعة)، وذكرت بأنه خلاف أقدم من كل الدول التي قامت، وهو لا يزال يشق الأمة في العمق ويختلط عبر التاريخ بخطاب شعوبي (فرس ضد عرب، وفرس ضد ترك، وترك ضد عرب، وترك ضد فرس، وعرب ضد كرد.. الخ). كم مات من مسلم في هذه الحرب الطائفية منذ صفين؟

ما دخل الغرب في خلاف السنة والشيعة؟ هذا الخلاف نشأ قبل أن تعرف الشعوب الأوربية أكل الناضج وقبل أن تنظم زواج المحارم. أين الشعوب الواعية من هذا الخلاف؟ هل وضعت له حدا وأجبرت حكامها على التصالح والعيش المشترك تحت راية الإسلام؟ ما قولك في شعوب مسلمة لا تزال تكفّر صلاح الدين الأيوبي، محرر القدس من الصليبيين؟

أنت تنزه الشعوب (وتحملها مسؤولية رسالية) وأنا فقدت الإيمان بها بناء على قراءة متأخرة في التاريخ (بعد طفولة مغرمة بأمة الإسلام العظيم)، منذ صفين لا منذ غزوة نابليون لمصر.

إني أملك أن أسند أطروحة متطرفة في التاريخ، لقد اتجه الفتح الإسلامي الأول إلى حيث الرقيق الأبيض (آسيا الوسطى وبلاد السند والأندلس)، بينما تجاهل الفاتحون بلاد الحبشة التي مات ملكها على الإسلام (وقد حمى النواة الأولى للسلام المهاجر)، ولكنها كانت بلادا من نساء سود ينقصهن الجمال الأبيض (يصلحن فقط للاستعباد). أعطني اسم فاتح واحد دخل أفريقيا السوداء ينشر الإسلام، أسعفني بفتوى واحدة لابن تيمية (وأمثاله) وأنت العالم به؛ يحرّم فيها تجارة النساء في أسواق بغداد والقاهرة، ألم تكن في كل مدينة من مدائن الإسلام أسواق رقيق أبيض وأسود؟ أليس سوق العبيد ماثلا بعد؛ كتراث محفوظ بجوار جامع الزيتونة المعمور؟ هل كان هذا فعل الحكام أم فعل الشعوب وعلمائهم المزيفين؟

ألم يشارك المسلمون في تجارة العبيد قبل التجارة المثلثة، بالتزامن مع تقدم السنوسية التجارية في العمق الأفريقي؟..

هذه الشعوب مسلمة لكنها لا تشكل أمة واحدة (حتى في موسم الحج)، وعندما وصلها المنتج الغربي (الدولة الوطنية) وجدت فيه فائدة فتبنته وصارت دولا تبني مصالحها على قدراتها الخاصة وبثقافتها الخاصة. والتيارات الإسلامية بعد التيارات القومية لم تنتج أي خطاب توحيدي للمستقبل، وتحولت بدورها إلى حزيبات قُطرية (طبقا لهوى دولها لا لهوى أمتها). لا يمكنني بناء أطروحات حالمة -على ما أظن- الشعوب تؤمن بها، في حين أراها تفعل خلاف ذلك. هذه الشعوب مختلفة الأهوية وإن صلت لقبلة واحدة، وليس هذا تمجيدا لحكامها فأنا من ضحاياهم.

سيدي هناك شعوب كثيرة تصلي لقبلة واحدة نعم، ولكنها ليست أمة ولم تكن ولا أراها تفعل.
الوازع العرقي أقوى من الدين، وإن الثقافات المحلية -وكثير منها وثني أو به لوثة وثنية- تتخفى أقوى تأثيرا من العقيدة الواحدة الموحدة. إن جمال النص الديني المرجع المشترك (وسلامته المنطقية) لم يكن أبدا من القوة بحيث يتحول إلى خلفية عمل سياسي توحيدي، وهذا قبل ظهور الغرب الاستعماري


أمة الإسلام (في التاريخ وفي المستقبل) بناء افتراضي رغبوي يطيب لي العيش فيه أكثر منك، لو كان يملك إمكان التحقق لكان قبل أن تظهر أوروبا وفرعها الأمريكي والصين وروسيا.. لكن يبدو أن القول الخلدوني في قيام المُلك على الضرورة (المصلحة) أقرب إلى الصواب من تخيلنا قيامه على عقيدة دينية (حدثت مرة واحدة ولم تستمر طويلا). هل يمكن أن تقوم مصلحة (عصبية حكم) بين مسلم إندونيسي وآخر مغربي؟ إنها رواية جميلة يمكنني تخيلها. قد يبني الدين عواطف مشتركة (ومحبة فائضة)، لكنه لم يذوّب نظام المنافع بين الإخوة أبدا.

إن الوازع العرقي أقوى من الدين، وإن الثقافات المحلية -وكثير منها وثني أو به لوثة وثنية- تتخفى أقوى تأثيرا من العقيدة الواحدة الموحدة. إن جمال النص الديني المرجع المشترك (وسلامته المنطقية) لم يكن أبدا من القوة بحيث يتحول إلى خلفية عمل سياسي توحيدي، وهذا قبل ظهور الغرب الاستعماري. انظر تر ولست أعلّمك. مفتي روسيا يحرض على غزو أوكرانيا وفتحها بنص ديني، ومفتي أوكرانيا يحرض على الجهاد ودفع العدو بنفس النص. مسلمان يقتتلان من أجل قطريهما وشعبيهما ومجالهما الجغرافي الخاص، حيث رزقهما وقوتهما وقبراهما القادمان.. (منذ شهور قليلة فاتت تشابك الإسلام السني بالشيعي في آسيا الوسطى). انظر تر، ولست أعلمك فأنت معلم.

يا أستاذي أنا لا أطاولك في الفلسفة ولكني أميل إلى علم الاجتماع، حيث أجد أن الثقافة المحلية المبنية على المنفعة القريبة والمتاحة بغير نص، وهي المنفعة المتاحة بالجهد المباشر (البراغماتية ربما)، أشد تأثيرا من نصوص الدين ومن أحلام الفلاسفة.