آراء ثقافية

تاريخيّة الإذلال والخزي.. من المدرسة إلى الإنترنت

ما زالت المؤسسات العقابية تتمتّع بقدرٍ عال من العقاب العلني المُذل والمُخزي للسجناء والمعتقلين والموقوفين- أ ف ب

يُعد الإذلال كما هو شعور يتملّك الإنسان، لكنّه بالمُقابل فن يمارسه كل من له سلطة ما في حيّز بعينه، ولذلك لعب الإذلال وبالأخص الإذلال العلني بمُمارساته المُتعددة، دورا هاما في بناء المُجتمعات وتحوّلاتها، بل والسيطرة عليها وإخضاعها، وإعادة إنتاج ذوات نفسيّة وأجسادٍ اجتماعيّة مُطيعة لكلّ ما تفعله السلطة.

 

فككت المؤرخة الألمانية أوتا فريفيرت الإذلال وممارساته منذ القدِم مرورا بـالعصر الوسيط وصولا إلى الحداثة، في كتابها "سياسة الإذلال: مجالات القوة والعجز" الصادر بالألمانية والذي نقلته إلى العربية دكتورة الأدب المصرية هبة شريف، نحاول نقاش أهم ما تناولته فريفيرت، عن علاقة السلطة بالخزي، وكيف تطوّر عبر الأزمنة، وما هي ممارساته الحديثة؟ 

سياسة الخزي


الذل هو شعور يُصيب الإنسان عندما يتعرّض إلى مهانةٍ معيّنة، تتعدد أشكال تلك المهانة من السبّ إلى الضرب أو العنف الممارس بشكلٍ عام، سواء كان عنفا ملموسا على الجسد أو عنفا معنويا بشكلٍ أو بآخر، يتحول هذا الذل إلى خزي عندما تحدث الإهانة بشكلٍ علني، هذا الخزي يصاحب الإنسان لفترةٍ من الزمن، وسط اجتماعات وبيئات بعيّنها، وأحيانا يتخلّص من ذلك الخزي عن طريق الانتحار. 

هذا الخزي جزءٌ من سياسةٍ ما لدى السلطة في قِدمها وحداثيّتها، تؤكده أوتا في كتباها، أو كما يوضحه الاجتماعي الألماني ماكس فيبر بوصفه السلطة أنها انتهاز كل فرصة لفرض الإرادة على العلاقات الاجتماعية، أي تشكيل الشعور بشأن العلاقات الاجتماعية التي تتأسس بين الأفراد، من خلال استطاعتها أن تجعل شخصا ما مُهانا مُذَلا طيلة الوقت أمام الاجتماع العام.

 

ما تجنيه السلطة من الذل العلني والجماعي، هو فرض سيطرتها على المزيد من الجمهور، ويكون العلن وتجربة الخزي للشخص المُعاقب خير رادع على من يفكر ارتكاب ذات الفعل الذي ارتكبه هُو، فضلا على أن تلك الممارسات مع الوقت أخذت -لاسيّما في العصور القديمة- استحسانا وقبولا جماعيّا لدى الناس، لكن في أوقاتٍ أُخرى قد يَكون هذا العقاب دافعا للثورة على السلطة، بما أن الناس جميعهم رأوا العقاب ولم يستحسنوه.

تطور الخزي


عرف الإنسان العقاب منذ طفولته، يُعاقب من ذوي السلطة عليه، فأول المعاقِبين يكونون من الأسرة، الأم والأب مثلا، إلى أن يلتحق الطفل بالمدرسة ويبدأ في الخضوع لسلطة رسميّة عليه.

 

جُلّ العقوبات في المدارس تتم في العلن، ليتحول العقاب هنا في بعض حالاته إلى خزيٍ. رسم الفنان مارتين كينبنجر عام 1989 العديد من اللوحات التي يقف فيها رجلا في رُكنٍ بعيد ووجهه في الحائط، لوحات دلّتْ على أشهر عقوبة مدرسية، وهي الوقوف متذنّبا في زاوية الجدران.

ترجع العقوبات المدرسية إلى أقدم من ذلك بكثير وبأشكالٍ مُختلفة، في فرنسا القرن الثامن عشر، كان الأطفال يرتدون رغما عنهم قبّعة حمار لفترةٍ من الزمن اليومي، كنوعٍ من العقاب، الذي اتخذ شكلا حيوانيّا يعمل على محو الكينونة الإنسانية لدى الطالب. أيضا تعددت ممارسات العقاب بحق الطلاب، مثل الوقوف في شمس الفناء، والضرب على القدم، حيث ينام التلميذ المُعاقب مُتصلّبا على ظهره، ويبدأ مُعاقِبه في ضربه بالعصا على قدميه، فيما يعرف في مصر بالمدّ على القدم.

 

تلك الممارسات استمرت على مرّ القرون إلى أن مُنعت بشكلٍ رسمي في أوروبا ومن ثمّ في بلادنا، على الرغم من أنّها ما زالت تمارس بشكل غير رسمي بقرار شخصي يرجع إلى عقلية العقاب والسلطة في حيزٍ ما. 

في عصرنا الحالي، تزيد أهمّية شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعي يوما بعد يوم، ليصبح بعد ذلك فضاء افتراضيا وواقعيا لمُمارسة العقاب العلني.

 

في عام 2011، تعرضت الشابة الألمانية اليهودية المتديّنة مارينا فايسباند إلى حملات كراهية من الأحزاب اليمينيّة، المُعادية للساميّة والأكثر قوميّة للدولة الألمانية، كذلك يمكن لأي شخص أن يتعرض للعقاب العلني على شبكة الإنترنت، من خلال إرسال رسائل عنصرية له، تحقّر من دينه، جنسه، شكله، وتشعره بالعقاب والمذلة، بالإضافة إلى تصوير الأشخاص بفرض القوّة وهم في شكلٍ مخزٍ مثل إذلالهم أو ضربهم أو سبّهم أو التحرش بهم أو اغتصابهم وعرض مقاطعهم المصورة على الإنترنت.

 

مؤخرا في مصر، شاهدنا عدة حوادث، من بضعة مراهقين يقومون بتصوير الضعفاء وهم في وضعٍ مُخزٍ ويضربونهم ويذلّونهم بهدف نشر المقاطع على فيسبوك أو تيك توك، لجلب مشاهدات واستعراض عقابهم على الفضاء الافتراضي، ولذلك بدأت السلطات في مصر بفضل وحدة الرصد والتحليل التابعة للنيابة العامة، المُختصة بالإنترنت في القبض وملاحقة مُرتكبي أفعال العقاب العلني على هؤلاء المستضعفين.  

كان الإذلال أيضا طقوسا رسميّا بين الدبلوماسيات السياسة حول العالم، في شكل إيماءات وحركات جسديّة معيّنة، فعندما كان يذهب مسؤولا من حضارة إلى حضارة أُخرى، يُفرض عليه الالتزام بطقوس الاستقبال والوصول إلى تلك الحضارة.

 

كانت الإمبراطورية الفرنسية بقيادة نابليون تفرض على مستعمراتها من دول أوروبا الخضوع والانحناء له وللبلاط الحاكم في فرنسا، وهذا ما ألغته أوروبا بين دولها بعد هزيمة نابليون وأصبحت المساواة الدبلوماسية حاضرة بينهم.

 

اقرأ أيضا: المبتسرون.. في تفكيك انتحار ما بعد الهزيمة

 

نجد في وقتنا الحاضر أيضا عّدة طقوس وإيماءاتٍ تدل على الإذلال الدبلوماسي العلني، مثل جلب كرسي صغير وفي مكانٍ مُتأخر لحاكم دولة معيّنة، ليصبح وجوده الرمزي في الاجتماع مُهينا في حضرة آخرين، مثلما فعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره السوري بشار الأسد في جلسةٍ جمعتهُما، أو حتى عندما منعه حرسه في التقدم بجوار بوتين عند زيارة قاعدة حميميم الروسية العسكرية على أرض سوريا، أو ما كان يفعله البعض من رؤساء الدول العربية مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري، عندما كان يتعمّدون تأخير مجلسه أو عدم مساواة كرسيه مع كراسي زعماء العرب الآخرين، كما يذكر السياسي الفلسطيني شفيق الحوت في سيرته الذاتية. 

ممارسات الخزي الحديثة 


تواجدتْ أفعال الخزي في وقتنا الحالي، تمارسها السلطة على المُجتمع، وإن قلّت ومُحيت قانونيا من العالم كلّه، باستثناء الدول التي تقرّ بعض العقوبات بالشرائع الدينية، لأن الشرائع الدينية تقر العقاب العلني من السلطة على مرتكبي الأفعال المُحرّمة مثل الزنا والسرقة. أما في المجتمعات التي لا تقرّ، فهي تمارس الخزي العلني بطريقة أو بأُخرى. عام 2010، عندما صفعت الشرطية التونسية بائع الخضار البوعزيزي على وجهه في الفضاء العام، جلب هذا له شعورا بالخزي ما اضطره للانتحار كنوعٍ من التمرّد والثورة على اضطهاده من قِبل السلطة.

 

أيضا من ضمن أسباب اندلاع ثورة يناير في مصر، تسريب عدة مقاطع مصوّرة داخل مراكز شرطيّة يقوم فيها الضباط بإذلال وضرب المواطنين، إذ خرج ذلك التعذيب من حيز المبنى الشرطيّ إلى العلن، فأصبح خزيّا جماعيا بالنسبة لفئاتٍ عدة، قد تعرضوا لهذا الفعل من قبل أو شعروا بواجب الثورة واسترداد كرامة الشخص المُذَل علنيا. 

أيضا ما زالت المؤسسات العقابية تتمتّع بقدرٍ عال من العقاب العلني المُذل والمُخزي للسجناء بداخلها، عقاب لاإنسانيّ وراء الأسوار، لا تنقله سوى شهادات من دخلوا السجن وخرجوا منه، وتلك الممارسات غير مُقننة، ولكنها تعدّ ضمن سياسات الحياة المرئيّة بوصف الفرنسي فوكو، التي تنتهجها السلطة السجينيّة، مثل التذنيب في الشمس، الصلّب، والضرب أمام جمهور آخر من السجناء، حيث تستحسن السلطة هذا العقاب أمامهم، لردعهم من جهة ومحو كرامة المُعاقب وإخزائه من أُخرى. 

أيضا، يعدّ العنف الجنسي متمثلا في الاغتصاب والتحرّش نوعا من الخزي لأصحابه، تستخدمه السلطات لفرض هيمنتهم على الفضاء العام، كما حدث تكرارا في حروبٍ كثيرة، مثل نساء برلين المُغتصبات في نهاية الحرب العالمية الثانية من الحلفاء المُنتصرين، كذلك في حرب البوسنة والصرب منتصف تسعينيات القرن الماضي، اغتصبت النساء البوسنيّات من جنود الصرب، ليبقى ذكرى وشعور الخزي مع الآلاف من أبناء وبنات ألمانيا والبوسنة، بشأن ذلك العنف الجماعي المُمارس من قبل سلطة الحرب.

 

ولذلك يلعب مفهوم الكرامة الإنسانية لدى المُجتمع بصفته الفردانيّة في علاقته مع السلطة دورا مُهمّا نحو مقاومة الإذلال والخزي كسياسة سُلطويّة، فكلما كان الإنسان مُدركا لمعنى الإذلال وممارساته، كلما استطاع بشكلٍ أو بآخر مقاومته.