يرتبط موضوع "السيادة الوطنية" بالأيديولوجيا المؤسسة للدولة- الأمة أو بأساطيرها التأسيسية. ولذلك فإن الاشتغال عليه في زمن العولمة الذي غيّر مفهوم السيادة حتى في الدول الغربية ذاتها؛ هو بالضرورة مساءلة نقدية للمنظورات السلطوية ذات الطبيعة "الشعرية" أو "التخيلية"، بحكم أن قيمتها لا تتجاوز- في الدول التابعة التابعة أو منقوصة السيادة كما يصنّفها الباحث عبد الوهاب الجمل - وظيفة التجييش أو الدمغجة واكتساب الشرعية، دون أن تكون مطابقة لواقع "السيادة" في المستوى الداخلي أو في صياغة المواقف الخارجية. إذ يصعب بل يستحيل في حالة تونس أن نتحدث عن سيادة كاملة على القرار، سواء في العلاقة بقوى محلية (المركّب الأمني- المالي- الجهوي المعروف) أو في العلاقة بالخارج (خاصة فرنسا والاتحاد الأوروبي)، كما يستحيل الحديث عن مقومات السيادة التي يمكن أن تؤسس القرار الوطني المستقل.
وقد عرفت تونس بعد ثورة 17/14 مساجلات كثيرة لم تسلم منها الثورة ذاتها. فقد اعتبرتها بعض القوى السياسية/ الأيديولوجية "مؤامرة" أو "ربيعا عبريا"، أي مظهر من مظاهر انعدام السيادة والتدخل الخارجي، أي أنها لم تعتبر الثورة تمردا على علاقات التبعية ومحاولة لتغيير شروط العلاقة اللامتكافئة مع الخارج، بل لحظة من لحظات فعل ذلك الخارج في تونس.
وبعد ذلك أجّجت سياسة المحاور (محور دعم الانتقال الديمقراطي/ محور دعم الثورة المضادة) الخلافات بين النخب التونسية وجعلت القرار "السيادي" مجرد مجاز. وقد جاءت إجراءات 25 تموز/ يوليو لتزيد في تعميق الاصطفافات الحدّية بين مجموع التونسيين؛ بين قائل بأنها "انقلاب" مدعوم من فرنسا ومحور الشر، وبين قائل بأنها "تصحيح مسار" يعكس الإرادة الشعبية ويكتسب شرعيته من "تفويض شعبي" ما فوق دستوري؛ لا يقبل الطعن أو التشكيك أو التدخل الخارجي.
أجّجت سياسة المحاور (محور دعم الانتقال الديمقراطي/ محور دعم الثورة المضادة) الخلافات بين النخب التونسية وجعلت القرار "السيادي" مجرد مجاز. وقد جاءت إجراءات 25 تموز/ يوليو لتزيد في تعميق الاصطفافات الحدّية بين مجموع التونسيين
لفهم معنى "السيادة الوطنية" عند أغلب النخب التونسية "اللائكية"، قد يكون علينا أن نستحضر نموذج السيادة الذي يدافعون عنه، وهو النموذج المهيمن في لحظتي الحكم الدستورية- التجمعية، والذي يراد مقايسة الوضع الحالي (حالة الاستثناء) عليه وشرعنته انطلاقا منه.
إن السيادة بهذا المعنى "اللائكي" الذي يدافع عن النمط المجتمعي التونسي، ليست في حقيقته إلا تَونسة مشوّهة لمبادئ الجمهورية الفرنسية وما يحكمها بنيويا من علاقة عدائية بالدين وبكل تعبيراته السياسية. ولذلك لا تعني السيادة في "حالة الاستثناء" - بعيدا عن كل التهويمات والاداعاءات - إلا إقصاء الفاعل الإسلامي الطارئ على الحقل السياسي القانوني (حركة
النهضة)، والتفاوض على إعادة هندسة الحقل السياسي والفضاء الاجتماعي ضمن نخب "متجانسة" في العمق هوياتيا أو ثقافيا، رغم اختلافاتها الأيديولوجية التي لا تتجاوز مستوى السطح. وهو تفاوض لم يطرح يوما إقصاء المنظومة القديمة ولا "كفاءاتها" التي لا كفاءة لها إلا إعادة إنتاج شروط التخلف والتبعية.
وآية ذلك أننا لم نر بعد 25 تموز/ يوليو حديثا عن إقصاء ورثة المنظومة القديمة ولا استهدافا ممنهجا لهم، كما هو الحال مع حركة النهضة. فرغم مسؤولية حركة النهضة عن الفشل المعمم في مأسسة استحقاقات الثورة أو تفكيك منظومة الفساد والاستبداد، يعلم الجميع بأن المستفيد الأعظم من استمرار تلك المنظومة هم ورثة المخلوع والنواة الصلبة للحكم قبل الثورة وبعدها (ملف المصالحة الاقتصادية، ملف استرداد الأموال المنهوبة والمصادرة، ملف المال السياسي المهيمن على تمويل الأحزاب وعلى الإعلام، ملف الاحتكار والاقتصاد الريعي، ملف الفساد الإداري والنقابي.. الخ)، ولكنّ إدارة الصراع على أساس ثقافوي هوياتي يمنح المنظومة القديمة " تمييزا إيجابيا" ويختزل الأزمة كلها في حركة النهضة التي يعلم خصومها أنها - في الحد الأقصى - مجرد شريك في منظومة، الفساد مثل أغلب الفاعلين الجماعيين (شقوق نداء تونس، النقابات، الإعلام، الأعراف)، وفي الحد الأدنى مجرد شاهد زور حكمته متلازمة ستوكهولم باعتبارها الأساس النفسي الأعمق لعملية التطبيع مع المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة.
لم نر بعد 25 تموز/ يوليو حديثا عن إقصاء ورثة المنظومة القديمة ولا استهدافا ممنهجا لهم، كما هو الحال مع حركة النهضة. فرغم مسؤولية حركة النهضة عن الفشل المعمم في مأسسة استحقاقات الثورة أو تفكيك منظومة الفساد والاستبداد، يعلم الجميع بأن المستفيد الأعظم من استمرار تلك المنظومة هم ورثة المخلوع
منذ تأسيس الدولة الوطنية بعد
الاستقلال الصوري عن فرنسا، لم تستطع النخب الحداثية (وهي بالأساس نخب ذات منحدرات جهوية معروفة كادت تحوّل الوطنية إلى مجرد استعارة جهوية) أن تبنيَ مقوّمات السيادة رغم كل ادعاءاتها الذاتية. وهو عجز قد يعود إلى روح خياراتها التي ظلت تتحرك في أفق التبعية الثقافية والسياسية والاقتصادية للمستعمر السابق.
فتحديث الدولة كان عملية فاشلة لأن النخب اختارت بناء مشروعها بلغة مستعارة؛ هي جزء من الميراث الاستعماري الذي كان ينبغي التحرر منه لا اعتباره هبة (اللغة الفرنسية). فالدراسات المقارنة لتجارب التحديث الناجحة تنبئنا بأنه يستحيل بناء مشروع وطني بغير اللغة الأم، كما عمدت تلك النخب إلى رهن الاقتصاد التونسي لفرنسا وشركاتها الكبرى، بحيث لم يكن تنويع الشراكات جزءا من استراتيجيات التحديث أو بناء مقومات السيادة.
ولذلك لم تكن "السيادة الوطنية" تعني خلال المرحلتين الدستورية والتجمعية إلا هيمنة نخب جهوية على نظام ريعي زبوني تابع ومتخلف، لكنه نظام يكتسب شرعيته ومشروعيته - لدى النخب - من بعض الأساطير المؤسسة مثل الوطنية والحداثة وحقوق المرأة، وغيرها من المجازات التي يراد بها التغطية على جوهره المذكور أعلاه.
ولا يمكن فصل خرافة السيادة الوطنية عن خرافة الحياد الديبلوماسي أو عدم الانحياز، إذ توجد بينهما علاقة اعتماد متبادل. فالمصادرة على وجود سيادة وطنية أو قرار وطني مستقل يجعل من الطبيعي الحديث عن سيادة تونس على مواقفها الخارجية (أي وجود حيادية حقيقية تخرج عن الإملاءات الفرنسية أو يمكن أن تتحرك ضد سياسات فرنسا ومصالحها). ولا شك في أنّ تغييب واقع التبعية لفرنسا يصلح لبناء سردية وطنية تزعم الاستقلال وتقوي عملية الاندماج أو التنشئة الاجتماعية، ولكنّ هذا التغييب يصلح أيضا لضرب أي مشروع لبناء مقومات السيادة داخليا وخارجيا، وهي مقوّمات يستحيل بناؤها في واقع التبعية غير المعترف بها، أو التبعية التي تعاش باعتبارها "حرية" أو ضمانة للحريات الفردية والجماعية في "النمط المجتمعي التونسي".
بعد عقود من الاستقلال الصوري عن فرنسا ما زالت الفرنسية تحكم الفضاء العمومي والوثائق الإدارية رغم نص الدستور الصريح، وما زالت اللائكية تحكم الفكر السياسي وإشكالاته وحلوله دون باقي النماذج العلمانية، وما زالت تونس حديقة خلفية لفرنسا ولمصالحها في الإقليم
لو أردنا أن نبحث عن جذر الأزمة أو عن العلة الأخطر في تونس فإن علينا البحث عنها في "النمط المجتمعي"، هذا النمط الذي يراد إعادة إنتاجه وإبعاده عن أي تفاوض جماعي بعد الثورة. ولا شك في أن تونس قد حققت مكاسب محدودة في لحظتي الحكم الدستورية والتجمعية، ولكنّ تلك المكاسب قد ارتبطت بعقل سياسي جهوي، تابع ومتخلف، ولذلك لم يستطع أن يحقق إلا القليل من مقوّمات السيادة، ولم يكن له يوما سلطان على خياراته/ ثرواته الوطنية ولا مواقفه الخارجية.
فبعد عقود من الاستقلال الصوري عن فرنسا ما زالت الفرنسية تحكم الفضاء العمومي والوثائق الإدارية رغم نص الدستور الصريح، وما زالت اللائكية تحكم الفكر السياسي وإشكالاته وحلوله دون باقي النماذج العلمانية، وما زالت تونس حديقة خلفية لفرنسا ولمصالحها في الإقليم. وهو واقع تحاول النخب اللائكية (وهي الآن في أغلبها الأعم من أنصار حالة الاستثناء) حجبه أو إبعاده عن دائرة السجال العمومي، بصورة لا يمكن معها اعتبار حديثهم عن السيادة الوطنية إلا مجرد تزييف للوعي وتكريس لواقع الاستعمار ونهب الثروات، بل مجرد خطاب تابع ومتحالف موضوعيا مع فرنسا رغم كل اداعاءات الاستقلالية ورفض التدخل الخارجي.
twitter.com/adel_arabi21