آراء ثقافية

السلام عبر الشوكولاتة.. رسالة حاتم علي الأخيرة

حاتم علي له أعمال سينمائية متميزة بينها التغريبة الفلسطينية والفصول الأربعة- تويتر

بعد حادثة الموت المفاجئ للمخرج حاتم علي، ظهرت أعماله على الساحة الفنية مجددا، محدثة صدى جماهيريا كما لو أنها عُرضت لأول مرة، حتى إن قنوات التلفزيون أعادت عرض بعض أعماله الدرامية كمسلسل عمر والتغريبة الفلسطينية وغيرها، وارتفعت مشاهدات حلقات المسلسلات التي أخرجها وشارك فيها على الشاشة الصغيرة.

 

وحاول الكثيرون استعادة الشعور الدافئ وذكريات العائلة في تفاصيل الفصول الأربعة، وباحثين عن معاني الكبرياء والشجاعة لدى الزير سالم، وفي مسلسل صلاح الدين الأيوبي يشدهم الحنين إلى زمن الانتصارات والشوق إلى بيت المقدس، وعيونهم تبحث عن العدالة في زمن ليس فيه عمر، زمن التغريبة الفلسطينية وسقوط الأندلس بعد قرون من الحضارة والازدهار مُثلت في ثلاثية الأندلس البديعة التي أخرجها الراحل حاتم علي رحمه الله. 

 

اقرأ أيضا: جماهير غفيرة تشيع جثمان حاتم علي في دمشق (شاهد)

وكان آخر عمل شارك فيه حاتم علي قبل وفاته، الفيلم الكندي "السلام عبر الشوكولاتة"، وقد ضجت وسائل الإعلام بالإعلان عن الفيلم، وساعد على انتشاره بشكل كبير وارتفاع نسب مشاهداته حادثة وفاته التي آلمت قلوب محبيه من شتى أنحاء العالم، فهرعوا لإلقاء نظرة على العمل الذي ودع حاتم جمهوره فيه دون أن يعلم، حيث لم يكن حاتم مخرجا ولا منتجا للعمل، بل كان بطل عمل متواضع، بدور بسيط، إلا أن خلف بساطته تلك رسالة بطولية بعمق مسيرته التي كانت حافلة بالإنجازات والأعمال التي خُلدت في الذاكرة. 

 



يتحدث الفيلم عن قصة حقيقية في كندا، تدور حول عائلة سورية لاجئة "عائلة هدهد"، والتي لجأت إلى كندا هربًا من الحرب السورية إلى لبنان ثم إلى كندا ضمن برنامج الهجرة، وحققت تلك العائلة نجاحا عبر صناعة الشوكولاتة، فأقامت مصنعا في عام 2015م، بعد أن دُمر مصنعها الأكبر في الشرق الأوسط للشوكولاتة بسبب الحرب التي كانت قائمة بين النظام السوري ومعارضيه في دمشق.

 

ويروي الفيلم كيف بدأت العائلة بإنشاء مصنع آخر من الصفر، حيث بدأ الأب عصام والذي مثل دوره الراحل حاتم علي، بصناعة الشوكولاتة بمطبخ بيته الصغير المتواضع، إلا أنه واجه في البداية معارضة من زوجته "شهيناز" والتي أدت دورها الفنانة يارا صبري، والتي أخبرته بأن أمر الشوكولاتة انتهى بانتهاء المصنع هناك، وأن الكنديين لن يحبوا ما نصنعه كما أحبه السوريون، إلا أن الأب لم يلتفت لذلك معللا موقفه بأن صناعة الشوكولاتة هي كل ما يعرفه ويريده في هذه الدنيا، ووقف إلى جانبه جاره "فرانك" والذي كان يعامله معالمة الأخ لأخيه فوجد عصام لديه العزاء والدعم والتشجيع.

يشير الفيلم إلى معاناة اللاجئين السوريين الذين فقدوا أغلى ما يملكون، أحبتهم، أموالهم، منازلهم بسبب وحشية النظام في بلادهم، والذي تسبب بهجرتهم من وطنهم لينجوا بحياتهم، وقد خسروا ما لديهم، مما اضطرهم إلى العيش في بلاد ربما لم يطأوها من قبل ولا يعرفون أحدا فيها، ليقاسوا ألم فقد الوطن والغربة، وعاشوا بين أفراد شعوب شتى، ينقسم أفرادها بين مستقبل لهم ورافض لوجودهم، بين داعم لهم وبين مهدد آخر لحياتهم ومستقبلهم الذي يحلمون بإعادة الأمل فيه.

 

وقد مثلت أسرة هدهد نموذجا للاجئين سوريين قوبلوا باستقبال البعض وهي شريحة مثلت في شخص الجار فرانك وزوجته اللطيفة، وبرفض الآخرين الذي ظهروا من خلال شخصية صاحبة المتجر المجاور، والتي سخطت من وجود متجر منافس لها، كما أظهر الفيلم أيضا كيف أن طبقة رجال الأعمال وكبار المستثمرين هناك، حاولوا الاستحواذ على متجر الشوكولاتة البسيط بعد النجاح الذي حققه رغم قلة الإمكانيات وتواضع الأدوات، محاولين استغلال حاجة الأسرة المادية، غير أن الأب "عصام"، تمسك بحلمه، وظل على يقين بقدرته على إنشاء مصنعه من جديد دون الحاجة إلى تدخل هذا وذاك، أو التخلي عن مبادئه وخلفيته الثقافية والدينية، وقد ظهر ذلك في مشهد رفضه أخذ قرض ربوي من أحد البنوك، وبقي رافضا حتى بعد أن أخبره مدير البنك بأنه لن يجد بنكا إسلاميا في كندا، فاستغنى عن فكرة القرض تماما، واستمر بالعمل.

 

اقرأ أيضا: تفاصيل مثيرة تكشف اللحظات الأخيرة في حياة حاتم علي (شاهد)

وتعد عائلة هدهد نموذجا للاجئين الذي استطاعوا الاندماج في المجتمعات التي عاشوا فيها، وهو اندماج تجلى في أبهى صوره، والذي يمكن له أن يتحقق في ظل التعايش، بمعنى دون أن يذوب الفرد تماما في المجتمع الجديد، ودون أن يحاول تغيير ما لا يمكن تغييره فيبقى في حالة من الاغتراب، فما فعلته عائلة هدهد كان تعايشا يحمل في طياته أسمى معاني السلام والرغبة في مد اليد للآخرين دون التنكر لذاتها، يد تنشر البهجة والسعادة عبر مذاق الشوكولاتة المصنوعة بحب، وهو ما دعاهم إلى تسمية متجرهم  ب" السلام عبر الشوكولاتة" ليكون رسالة محبة وسلام، وقد تحدث رئيس الوزراء الكندي، في أحد المؤتمرات عن اللاجئين في مدينة نيويورك، عن هذا المتجر، مشيدا بتلك العائلة الطموحة، والمحِبة للسلام.

وبالعودة إلى بطلنا الراحل، فقد أثرى وجوده العمل على جميع الأصعدة، سواء على الصعيدي الفني أو التسويقي، فعلى الرغم من المكانة الكبيرة التي يحظى بها حاتم علي، ومسيرة إخراجية مكللة بالنجاحات والإنجازات الرفيعة المستوى، فقد أدى دور أب بسيط، بطريقة عفوية صادقة تلامس المشاعر، فمثل حب العائلة وصراع الأمل واليأس والحزن والفرح.

 

وليست المرة الأولى التي يترك فيها علي كاميرا الإخراج ليمارس دورًا بسيطًا بكل تواضع، فقد فعل ذلك في الكثير من أعماله، كدور رشدي في التغريبة الفلسطينية، ونورس في العراب، بالإضافة إلى دور رشيد الذي قبل حاتم تقديمه في مسلسل غدا نلتقي من إخراج رامي حنا، فعلى الرغم من أن دوره لا يتجاوز المشهدين أو الثلاثة فقد قبل حاتم مشاركة زميله وأداء هذا الدور المتناهي في الصغر إلا أن ظروف تصويره لأحد الأعمال حالت دون ذلك.

 

وهذه رسالة هامة جدا أراد حاتم إيصالها لزملائه في الوسط الفني بأن الفنان الحقيقي هو من يعطي الدور أهميته وليس العكس، وقد حذا رامي حنا حذوه في ذلك عندما أدى بنفسه دور رشيد عندما منعت الظروف وجود حاتم.

ولا زال حاتم علي، رغم وفاته، يلهم الكثيرين بأعماله التي قدمها، خصوصا عمله الأخير، الذي أعاد فيه إحياء حكاية قديمة بكاميرا متواضعة وإمكانيات بسيطة، حكاية تحمل في طياتها رسائل الأمل وعدم اليأس، وقد أعاد كذلك قضية اللاجئين ومعاناتهم إلى الواجهة، مسلطا الضوء على ما يختلجهم من مشاعر وما لديهم من طموح وآمال بغد أفضل.

 

وبالطبع فإن حاتم علي كان يعلم تماما أن وجوده سيساهم بشكل كبير بانتشار العمل على نطاق أوسع مما يمكن تصوره بمجرد أن يلحظ المشاهد وجوده أو يقرأ اسمه في إعلان الفيلم، فخلع ثوب الإخراج ووقف أمام الكاميرا كمبتدئ، ليقدم عملا لأبناء وطنه زاد من مساحته في الذاكرة السورية والعربية والعالمية أيضا، رحمه الله.