أعلن رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، فجر الجمعة، تأجيل الانتخابات التشريعية إلى حين ضمان مشاركة القدس والمقدسين فيها (ترشيحا وانتخابا ودعاية انتخابية).
وجاء القرار في ختام اجتماع القيادة الفلسطينية في مقر رئاسة السلطة في مدينة رام الله. ما يتطلب التمعن في القرار ومعالجته بعيدا عن التشنّج لهذا الموقف أو ذاك، خصوصا في ظل تكهن معظم المحللين بمضمون القرار قبل صدوره بأيام عديدة. كما لا بدّ من بعض التريّث في معالجة قرار التأجيل، انطلاقا من مسألتين رئيسيّتين، هما الموقف من انتخابات سلطة أوسلو أولا، والموقف من التسليم بالإرادة الصهيونية ثانيا. وهو ما سوف نحاول ملامسته في الملاحظات التالية:
أولا: يستند قرارا إجراء الانتخابات وإلغائها إلى ذات الأرضية السياسية والقانونية، التي نظمتها الدولة الصهيونية وفق اتفاق أوسلو، والتي رضخت لها السلطة كليا منذ يومها الأول. وعليه، يجب أن ينطبق الموقف من رفض الرضوخ إلى إملاءات الدولة الصهيونية على كل من قراري إجراء الانتخابات وفق أوسلو، وتحت حراب الاحتلال أولا؛ وعلى قرار إلغاء الانتخابات انصياعا خلف رفض الدولة الصهيونية إجراءها في القدس ثانيا. وهو ما ساهمتُ كغيري في إظهاره منذ اليوم الأول لإعلان إجراء الانتخابات، أي رفض انتخابات سلطة أوسلو بغض النظر عن ذريعة الإلغاء الأخيرة.
ثانيا: يتناقض قرار القيادة الفلسطينية بإلغاء الانتخابات مؤخرا، كلّيّا، مع الموقف الرافض لإجراء انتخابات وفق أوسلو وتحت حراب الاحتلال، على الرغم من تطابق النتيجة المتمثلة في إلغاء الانتخابات. وذلك نظرا لانطلاق موقف القيادة الفلسطيني الأخيرة من انتظارها موافقة الدولة الصهيونية على إجراء الانتخابات، في حين ينطلق الموقف الثاني من رفض الخضوع لتوجهات وغايات ورغبات الدولة الصهيونية على اعتبارها دولة احتلال إحلاليّ، يمارس تطهيرا عرقيا بحق الشعب والأرض الفلسطينية أولا، وتمييزا عنصريا تجاه مجمل الفلسطينيين الصامدين ثانيا.
ثالثا: يعمل كل من قراري إجراء وتأجيل أو إلغاء الانتخابات على تكريس أزمة المشروع الوطني الفلسطيني الديمغرافية، المتمثّلة في تثبيت واقع الانقسام الجغرافي بين لاجئين ومقدسيين وغزاويين وفلسطينيي 48. إذ ينطلق القراران من استبعاد مرفوض لغالبية مكونات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه، وهو ما يتمثّل في حصر المشاركة الانتخابية الأوسلوية ضمن فئة محدودة من شعب فلسطين الأصلي، هم الحاصلون على هوية السلطة الوطنية الفلسطينية من سكان الضفة الغربية وغزة والقدس، دون سواهم من الفلسطينيين داخل الوطن وخارجه.
رابعا: يعمل كل من قراري إجراء وتأجيل أو إلغاء الانتخابات على تكريس أزمة المشروع الوطني الفلسطيني السياسية، المتمثلة اليوم في الانقسام حول طبيعة وتوجهات ومضمون البرنامج الوطني الفلسطيني. حيث يمكن حصر هذا الانقسام وفق أربعة تيارات رئيسيّة: أولها متبنّو خيار الدولتين على قاعدة مفاوضة الدولة الصهيونية برعاية دولية؛ وثانيها متبنّو خيار الدولتين وفق رؤية نضالية يسمونها تحرريّة؛ وثالثها متبنّو خيار الدولة الواحدة انطلاقا من مفاوضة الدولة الصهيونية وبرعاية دولية أيضا؛ ورابعا متبنّو خيار الدولة الواحدة وفق رؤية تحررية وتقدمية وإنسانية. وانطلق قرارا القيادة الفلسطينية بإجراء ومن ثم إلغاء الانتخابات من حصر المشاركة في العملية الانتخابية في نطاق متبني خيار الدولتين فقط، وهو ما يكرس الأزمة السياسية بدلا من العمل على حلها بأسرع وقت ممكن، عبر الحوار والتشاور وتفعيل دور الهيئات والهياكل الاجتماعية والأكاديمية والمهنية والمشاركة الشعبية غير المشروطة والكاملة داخل الوطن وخارجه.
خامسا: يعمل كل من قراري إجراء وتأجيل أو إلغاء الانتخابات على تكريس أزمة الانقسام السلطوي بين "فتح" و"حماس" أو بين الضفة الغربية وغزة، فعلى الرغم من عديد الشواهد على ضعف وتبعية وعجز السلطتين كلتيهما، إلّا أن منطلقات إعلان إجراء الانتخابات أولا، وإلغائها ثانيا، قد تكون انطلاقا من رؤية تعمل على تكريس قوى الأمر الواقع، نظرا لغياب الجهود الوحدوية الحقيقية القائمة على أسس ثابتة ومعلنة، تنطلق من استعادة الرؤية الوطنية الناظمة للعمل الوطني، بعيدا عن الخضوع إلى الرؤية المصلحية الضيّقة، والأوهام السلطوية التي غرق بها كلا التنظيمين.
سادسا: هدم كل من قراري إجراء وإلغاء الانتخابات جميع أسس العمل الوطني الديمقراطي النادرة أصلا، من خلال تسويف المفاهيم وإفراغها من مضمونها الحقيقي، كما جرى في تحويل الإجراء الانتخابي إلى تعبير عن ديمقراطية الجسم السياسي الفلسطيني. وهو ما يخفي الواقع الفلسطيني السوداوي والاستبدادي والتحكمي، القائم على كم الأفواه وتحييد المعارضين والأصوات الوطنية الحرة والمستقلة داخل السلطتين الوهميتين في الضفة وغزة على حد سواء، وفي المخيمات الفلسطينية خارج فلسطين عبر تنسيق أمني ذي نزعة استبدادية بين الفصائل والقوى والمنظمة من ناحية، والنظم الحاكمة في الدولة المستضيفة من ناحية ثانية، ولا سيّما في كل من سوريا ولبنان. الأمر الذي يكرّس طبيعة الجسم السياسي الفلسطيني الاستبدادية والأبوية داخل فلسطين وخارجها، وما الرتوش الديمقراطية التي حاولت السلطة والفصائل الفلسطينية ادعاءها منذ صدور قرار الانتخابات، سوى ألاعيب سلطوية نجدها لدى جميع النظم الاستبدادية الإقليمية والدولية. إذ تتمثل الشروط والبيئة الديمقراطية في عوامل عديدة نعلمها جميعا، مثل حرية الرأي والتنظيم والعمل السياسي والنقابي وحرية الصحافة واستقلال القضاء والحق، وسهولة الحصول على المعلومة وتقويض سلطة النظام المسيطر المالية والأمنية والإعلامية على موارد المؤسسات وإمكانياتها التي يديرها، أي في حالتنا على إمكانيات وموارد ومؤسسات السلطتين والمنظمة طبعا، وجمعها غير متوفرة تاريخيا وراهنا حتى في المرحلة التي أعقبت الإعلان عن الانتخابات.
من كل ذلك ومن أجل المضي قدما في مسار مشروع استعادة الرؤية التحررية الشاملة والكاملة، الذي تؤكده نضالات الشارع الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها، لا بدّ من المحافظة على ثبات الرؤية والهدف والغاية الوطنية الآنية والمستقبلية، المتمثلة في النضال من أجل إعادة بناء الجسم السياسي الفلسطيني على أسس ديمقراطية حقيقية وراسخة، واستعادة الخطاب والرؤية والنهج التاريخي والوطني والتحرري، الذي ينطلق من كل فلسطين ومن كل الشعب، بعيدا عن اللهاث خلف أخبار انتخابية خادعة هدفها الوحيد ترسيخ جوهر البنية المسيطرة، المتمثلة في ضمان أمن الدولة الصهيونية والحفاظ عليها، على حساب مجمل الحقوق الوطنية الفلسطينية أو غالبيتها.
(عن موقع عرب48)