كان صديقي يُطلعني على مُلاحظاته الأوَّلية على سيرة عُمر بن سيِّد السنغالي، الأفريقي المسلم، الذي اشتُهر مؤخراً بسبب نشر مكتبة الكونغرس الأمريكي لمخطوطة مُذكراته، بوصفها الوحيدة من نوعها، بين المستَعبَدين الأفارقة؛ التي دُوِّنَت بالعربيَّة(1). والحق أن عناصر نموذجه التفسيري الفذ، الذي بدأ ببلورته خصيصاً لاستعماله في قراءة سيرة الشيخ عُمر (أو العم مورو كما لقَّبَهُ الأمريكان)، قد سَرَت في عقلي كأنها تيَّار كهربي؛ فاستنارَت بها بعض المناطق المظلمة في خبراتي الشخصيَّة، التي لم أكن قادراً على تفسيرها بعد.
كيف بدأ الشيخ عُمر بالكتابة على حائط زنزانته لحفظ ذاكرته، وكيف كانت كتابته لـ"مذكراته" على الأوراق هي إعادة كتابة على حائط ذاكرته، التي بدأت تتداعى وتخبو، محاولاً الحفاظ على ذُبالتها الخافتة؛ هو ما سيكتشفه القارئ ويَطَّلِع على آلياته ودوافعه، حين يُطالِع الكتاب المذكور. أما ما يَعنينا هاهُنا فهو أمران: أولهما خبرة
الكتابة على الحائط بوصفها محاولة لحفظ
الذاكرة، امتدَّت لاحقاً إلى الأوراق، وثانيهما خبرة
السجن، التي دَفَعت الشيخ الأسير لمحاولة حفظ ذاكرته بلُغَته الأصليَّة، التي لا يفهمها الأمريكان. والمقصود هنا هي خبرة السجن الأكبر الذي مَثَّلَهُ استعباد الاسترقاق، لا مجرَّد البناء الصغير، الذي أُلقي خلف قُضبانه حين حاول الفرار من وحشيَّة "سيده" الأبيض فحسب.
والحق أنه لا يُمكن الفصل بين خبرة السجن ومحاولة حفظ الذاكرة، سواء في تجربة الشيخ عمر، أو في تجارب غيره من المتقدِّمين والمتأخرين. وما ذلك إلا لأن عُزلة السجن تُعيد المثقَّف لا إلى الذاكرة وحدها، محاوِلاً استنقاذها مباشرة، بل تُعيده أولاً، وبالأساس إلى اللغة التي تُحفَظ بها هذه الذاكرة. وذلك لأن الذاكرة الإنسانيَّة لا تتكوَّن أصلاً بغير لُغة، بل إن اللغة تُشَكِّلُ حدَّها وأفقها، وترسم بالتالي طريقة حفظها. وفي حين كان الشيخ عُمر يحاول استنقاذ عين لغته العربيَّة وكتابها المنزَّل في نفسه المنهَكَة، فهي كل ذاكرته التي يستطيع استنقاذها؛ كان الحاج مالك الشبَّاز (مالكوم إكس) يُعيد بناء مُعجم جديد، بحفظ مفردات المعجَم الإنكليزي؛ لتحقيق انعتاقه من المجتمع العُنصري بِلُغَةٍ جديدة على ماضيه، لغة "ثائرة" لا تُهادِن؛ وكان علي عزت بيغوفيتش يحاول الحفاظ على مقدرته العقليَّة، بالمران على استعمال لُغته البوسنويَّة في التعليق كتابةً على ما يقرأ - في شتى الموضوعات - فإننا نجد سيد قطب يُعيد بناء اللغة القرآنية في عالمه الجواني أولاً؛ ليُخرِج بها شبكة الإدراكات والعلاقات الجديدة التي فُتِحَت له في ظلال الكتاب الكريم.
ويبدو أن خبرة السجن مُفتاحيَّة في إعادة تشكيل هذا الوجدان؛ إذ تُعيد بناء اللغة ومُعجمها الشخصي - وبالتالي الإدراك - ومن ثم تفتَحُ لصاحبها باباً جديداً من الحساسيَّة اللغويَّة المتفرِّدة، التي تجعله قادراً لا على البناء الفكري النظري فحسب، وإنما على إعادة البناء من مُفرَدات الواقع نفسه استمداداً من المركز اللغوي. فإذا داهَمَت هذه الخبرة صاحبها في سنِّ نُضجٍ، وانقَطَعَ بها نمط حياةٍ صاخِبٍ بالحركة الدنيويَّة، كما في الحالات التي أشرنا إليها؛ فإنها تكون شديدة الفعاليَّة في تعزيز إدراك صاحب الخبرة للواقع. وما ذلك إلا لأن خبرة السجن هي "سكونٌ عارِضٌ" للحركة الدنيويَّة، سكونٌ ينقِل صاحب الخبرة من حُجُب الانشغال الكامل، بمزاحمة الخلق وضجيج الحركة؛ إلى كرسيِّ المتفرِّج، فكأنه يَنتَقِلُ فجأة لمشاهدة العالم في فيلم سينمائي، بعد أن كان أحد شخوصه المشغولين بأدوارهم عن التأمُّل والتدبُّر في سائر عناصر "الكادر". فإذا توفَّرَت عناصر نفسيَّة وروحيَّة بعينها، لهذه الخبرة؛ تجسَّدَت لصاحبها ذاته، فإذا هو يُعاينها كذلك وهي تتحرَّك في ماضيها ومستقبلها.
وتبدأ عمليَّة حفظ الذاكرة في صورتها النماذجيَّة بحفظ آخر لحظة في الحركة وأول لحظة في "السكون"، خصوصاً على هيئتها السوسيومعرفيَّة والقيميَّة الأخيرة - أيّاً كان موقفنا منها - وذلك بوصفها نقطة انطلاقٍ لفهم مسار الواقع التاريخي في ماضيه وحاضره: ما قبل هذه النقطة الزمنيَّة "الساكِنَة" وما بعدها. ثم يَنتَقِلُ صاحب الخبرة بعدها إلى استعراض الشريط السينمائي للماضي (وهو نمط مطَّرِد عند كافَّة أصحاب هذه الخبرة، أيّاً كان موقفهم من "الماضي"، ومهما كان حجم إيغالهم فيه)، وتتجرَّد خلال هذه المشاهدة أنماط الحركة الإنسانيَّة المنقَضية، ويتم تنزيلها لقراءة مُستقبَل هذا الواقع، في ضوء استمرار نفس الأنماط. وفي هذا كله تفكيكٌ للواقع بكافَّة مراحله التاريخيَّة، ثم تكون المرحلة الأخيرة هي إعادة بناء هذا الواقع، استمداداً من خبرة تاريخيَّة مركزيَّة في هذا الماضي (خبرة لها خصوصيَّة سوسيومعرفيَّة، ومركزيَّة قيمية)، وانطلاقاً إلى المستقبَل؛ ليُبلور صاحب الخبرة إدراكاً بما ينبغي أن يكون (في المستقبَل)، ولو لم يَنمُ مُنطَلِقاً مما كان ينبغي أن يكون (في الماضي).
هذه العمليَّات الفكريَّة التي يضطلع بها صاحب الخبرة لا يُشترط أن تتم بوعي كامِل، بل الراجح أنها تتحقَّق في مُتتالية من عدم الوعي الواضح بها، وإن كانت في الوقت نفسه مدفوعة بدوافع فطريَّة عميقة. لكنَّ هذه "الخبرة" عينها قد تصير اختزاليَّة تجزيئيَّة مُشَتِّتَةً، تقتصِرُ على مجرَّد الفرار من "الحاضر البغيض"، فراراً إلى الماضي أو إلى المستقبل - كما يذهب بيغوفيتش - وهو ما يعتَمِدُ على طبيعة تكوين الشخصيَّة وقناعاتها وصورتها الذهنيَّة الذاتية، ورؤيتها الكونيَّة؛ فقد يتقوقع الإنسان على الغرق في الماضي، أو قد ينتَقِل مباشرة إلى الحلم بالمستقبَل. وفي هذه الحالة "الهروبيَّة" يتم تفتيت الذاكرة تماماً، ويصير صاحب الخبرة جزءاً من الواقع الذي كان يرفضه؛ بل يصير سجينه حرفيّاً، بعد أن صار الواقع نفسه مبلغ علمه وأكبر همه، وذلك كما حدث مع أكثر "الجماعات المسلَّحة" التي أنجَزَت "مراجعاتها" داخل السجون. وإذا كان الشيخ عمر يُدرك أنه سجين الاسترقاق، ويحاول استنقاذ ما بقي من شظايا ذاكرته وإنسانيته، فإن أصحاب "الحالة الهروبيَّة" لا يُدركون أنهم قد استُرِقوا لواقعٍ لا يختلف كثيراً عن الواقع الذي استعبَد الشيخ عمر وأهدر إنسانيته المركَّبَة.
والحق أن الصورة النماذجيَّة، لبناء الوعي التاريخي وحفظ الذاكرة، لا تكتَمِلُ إلا بالقرآن ومعه وفي ظلاله، فإن الإعجاز القرآني جعل من الكتاب المعصوم المركز اللغوي والقيمي والمعرفي لهذه الأمَّة، ومن ثم؛ المصدر الأوحد للأنساق السوسيومعرفيَّة المتكامِلة، التي لا تعتدي على الواقع بظنون وأوهام طوباويَّة، وإنما تتعاطى معه من خلال جدليَّات تاريخيَّة وسُنن عمليَّة مطردة في الوجود.
وقد انعكس هذا الحضور القرآني المتكامل في نسق قطب، بأكثر مما انعكس في أنساق مالكوم إكس أو بيغوفيتش، أو غيرهما من المحدَثين. وإننا إذا افترضنا تساوي الاستمداد المعرفي والقيمي للجميع - بحكم ظاهر الصدق والإخلاص في حركتهم، لا بحكم الواقع الفعلي - فإن المقطوع به أن الاستمداد اللغوي عند سيد كان نماذجيّاً استثنائيّاً بطبيعة الحال، ولا يُمكن مقارنته بالأنساق المأسورة في سجون العُجمة كأصحابها، عليهم جميعاً سحائب الرحمات والرضوان.
* * *
الحائط في العربيَّة هو اسم الفاعِل من الفعل حاطَ، وهو جدارٌ لا يكون إلا كفاصلٍ بين شيئين، كأن يحوط منهما شيئاً ليفصله عن غيره، وذلك كما يُتَّخَذُ الحائط حول البناية؛ فهو جدارٌ قد تشكَّل على هيئة شكلٍ هندسي لـ"يُحيط" بشيء، ويحجزه أو يحجز دونه.
* * *
ويبدو أن عمق استيعابي لهذه الحالة، وإن كان مطموراً في نفسي حتى استخرجه صديقي؛ مصدره مروري بتجربة شديدة المجانَسَة: "خبرة سجن" حاولت فيها بناء وعي وذاكرة تاريخيَّة، والحفاظ عليهما حتى بوجه هوى نفسي وثقلها. والظاهِر أن هذا النمط قد تشرَّبته نفسي بعد أن تفرَّغت دهراً - خلال النصف الأول من عشرينياتي - للاطلاع على كافَّة أدبيات السجون التي أمكنني الوصول إليها، بل وعلى المخرجات الفكريَّة التي أثمرها السجن في مذاهب ولُغاتٍ وعصورٍ شتى.
وقد وقع ذلك كله مُتزامناً مع انخلاعي من النشاط التُجاري لأسرتي، وبدء انتقالي إلى عالم الكتابة والنشر والكتب. وبسبب صعوبة تحقيق هذا الانتقال - نفسيّاً واجتماعيّاً - كما بسطت في مقالٍ قديم(2)؛ فقد كنت بحاجة إلى مركزٍ صلبٍ أتشبَّثُ به، إذا ما عصفت ريح هواي واثَّاقلت إلى الأرض. وقد كانت عناصر هذا المركز - المعرفي واللغوي والقيمي - عبارة عن رصيد ضخم من الشعر العربي - قديمه وحديثه - ومن اﻵيات القرآنيَّة، لم أكن أحفظها عن ظهر قلب في ترتيبٍ نسقي مُعيَّن فحسب، وإنما رُحت أدونها على حوائط المنزل الذي أسكنه، في كل الغرف بلا استثناء. ويبدو أنني لم أكن أفعل ذلك حُبّاً في القرآن والشعر فحسب، وإنما تثبيتاً لنفسي بأن يكون تذكارها ماثل لناظرها طوال الوقت. لقد كُنت أساق لأن تثبت رؤيتي للوجود بشيء قد أراده الله؛ فإن غفلت في حجرةٍ تذكَّرت في أخرى، وإن غفلت خارج المنزل تذكَّرت بمجرَّد عودتي إليه!
لقد صارت حوائط مسكني وأبوابه أشبه بحوائط الزنزانة؛ فلا شيء إلا الآيات والأبيات، التي أُدرِك من خلالها الوجود، وكلما زارني أهلي اجتلَبوا من يُزيل بعضها في غفلة مني!
لقد كنت بحاجة إلى عُروة دائمة البروز؛ عروة لا تَحِل في الذاكرة المنهكة فحسب، أو يُمكن الوقوف عليها بين دفتي كتاب - إن تصادَف فتحه! - وإنما تتوثَّق بدوام حضورها، حتى تشغل الأفق البصري كله، فلا أغفل عنها لحظة؛ لتصير بعد حينٍ طبيعة ثانية. لم أكن بذلك أبني ذاكرتي فحسب، وإنما كنت أصنع منها سجناً على الحقيقة! وغالب الظن أن هذا هو سبب شعوري الخانِق - الذي دام لعدَّة أعوام - بأني مسجون، وعدم تخفُّفي من هذا الشعور إلا بالسفر القصير خارج مصر، كل عام أو عامين.
وإذا كان السجن لا يملأ ثقوب الذاكرة فحسب، وإنما يُعيد بناءها ويُنتج منها السرديات المتماسكة، فإنني قد فعلت العكس؛ إذ بنيت من الذاكرة سجناً إراديّاً أجبرت نفسي على النزول بين حوائطه، لا للالتزام بعروتها فحسب، وإنما ليظل ما أنتجه مُستقيماً على نفس الجادة مُلتزماً بعين الرؤية الكونيَّة.
لقد أراد الله - لحكمة علمها سبحانه وتعالى - أن أهجر ضوضاء الصورة والصوت، في ذروة جبروت الإعلام؛ لآنس بحرفٍ موحش موجع، ثقيل الحضور دائمه، حرف حاولت الانحراف عنه حين بدأ وجودي يضيق به، بيد أن الله كان أرحم بي مني؛ فما كدت أخرج من سجن ذاكرتي حتى اكتشفت أنها صارت جزءاً مني لا يُمكنني الانخلاع منه، أو أنني صرتُ عالة عليها..
__________
الهوامش:
1- اسمه الصحيح "عُمر بن سيد" لا ابن سعيد، وأكثر من حرَّفوا الاسم وقعوا في هذا الخلط لأنهم اعتمدوا على رسم كتابة الاسم بالحرف اللاتيني، وعلى المادَّة المكتوبة عن الرجل بالإنكليزية، لكنهم لم يطِّلعوا على المخطوطة العربية رغم أنها مبذولة!! والمخطوطة العربية نفسها قيد النشر إن شاء الله، بعنوان: "مذكرات عبد أمريكي"؛ لدى تنوير للنشر والإعلام، بعد تحقيقها وضبطها على يد الأخ النابه الدكتور محمد متولي، واضطلاع الصديق الفذ الدكتور محمد صفار بالتقديم لها.
2- بسطت ذلك في مقال نُشِر قبل سنوات بعنوان: "لماذا أنشر الكتب؟"، وهو متوفر على الإنترنت.
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry