لا جدال في أن الصراع القادم في الشرق الأوسط لن يكون بين الدول العربية والجمهورية
الإيرانية، فقد خرج العرب منذ زمن بعيد عن حدود المنافسة الإقليمية، وبات واضحاً أن المنافسة تنحصر بين تركيا وإيران وإسرائيل. ومن المفارقة أن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية منذ تدخلها في المنطقة أضعفت حلفاءها في العالم العربي، وعززت من نفوذ إيران في الشرق الأوسط على خلاف ادعاءاتها الحد من النفوذ الإيراني.
وأفضت السياسات الأمريكية إلى إضعاف الدول العربية ودفعتها إلى حدود العجز والفوضى، ومنذ الغزو الأمريكي للعراق 2003 تمددت إيران في المنطقة، وعززت نفوذها عقب الربيع العربي 2011، ودخل العالم العربي في حالة من التيه الاستراتيجي، والفوضى وغياب المشروع.
على مدى عقود ادعت الولايات المتحدة الأمريكية أن إيران تشكّل تحدياً شاملاً لمصالحها، وتهديدا واسعا لحلفائها وشركائها العرب في الشرق الأوسط، ولم تخل أي وثيقة للأمن القومي الأمريكي منذ سقوط نظام الشاه وصعود دولة "ولاية الفقيه" من الحديث عن الخطر الإيراني. وفي خضم الادعاءات الأمريكية بالتصدي للنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، تمكنت إيران خلال العقود الأربعة الماضية من التمدد والانتشار وتمكين سيطرتها وزيادة نفوذها، وخلق فضاء جيوسياسي من طهران إلى بغداد مرورا بدمشق وصولاً إلى بيروت، فضلاً عن نفوذها في البحرين واليمن، وفي كل مرة ادعت فيها أمريكا التصدي للنفوذ الإيراني كانت إيران تخرج بنفوذ أكبر وتوسع أعظم.
احتفت الزعامات الدكتاتورية العربية بفوز دونالد ترامب باعتباره بطلاً سيعمل على مواجهة نفوذ إيران، حيث تضمنت خطابته وتعليقاته غير المنمقة دعاوى خيالية تجمع بين التصدي لإيران والحرب على ما يسمى "الإرهاب"، وهي ثيمة باتت ثابثة منذ نهاية الحرب الباردة، برزت بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر وقادت إلى حربين أمريكيتين كارثيتين في العراق وأفغانستان إبان حقبة بوش الابن، انتهتا إلى خلق حالة من الفوضى في الشرق الأوسط وتصاعد النفوذ الإيراني والإرهابوي معاً. لكن ثمة توافق على أن أمريكا لا تتوافر على استراتيجية شاملة للحد من التمدد الإيراني في المنطقة، وهي مسألة عابرة للإدارات الأمريكية التي تنظر إلى المنطقة من وجهة نظر إسرائيلية تسعى إلى خلق تناقضات تدفع العرب إلى أحضان إسرائيل. ولذلك فقد شكل التحدي الإيراني خدمة لأمريكا وادعاءات إسرائيل مهدت لسياسات التطبيع المجاني، ولم تقم أمريكا بأي محاولة جدية للحد من النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، بل إن سياسات أمريكا في المنطقة هي التي ساهمت في تمدد النفوذ الإيراني، وانحسار المنافسة العربية.
خلال العقدين الماضيين قادت أمريكا جملة من الحروب والحملات باسم "حرب الإرهاب" عززت من مكانة إيران كدولة إقليمية فاعلة. فالسياسة البراغماتية الأمريكية عملت على التعاون مع إيران عقب أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 لإسقاط نظام طالبان في أفغانستان 2001 ونظام صدام حسين في العراق 2003، وانتهت إلى تخليص إبران من عدوين لدودين، ثم تمدد النفوذ الإيراني بصورة حاسمة. وقد استنزفت تلك الحروب الأبدية أمريكا، وأدت إلى انسحابها نهاية الأمر، وأفضت في نهاية المطاف إلى إنجاز الاتفاق حول الملف النووي الإيراني إبان حقبة أوباما، بين الولايات المتحدة والغرب (5+1) وإيران في تموز/ يوليو 2015 والذي جاء تتويجا لتراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط. ولم تفلح جهود ترامب من خلال الضغوطات الأمريكية السياسية الصارمة والعقوبات الاقتصادية القاسية على إيران، عقب الانسحاب من
الاتفاق النووي في أيار/ مايو 2018، واليوم يرغب الرئيس الأمريكي بايدن بالعودة إلى الاتفاق النووي، بعيداً عن أحاديث النفوذ والهيمنة.
في هذا السياق تكشف الشرق الأوسط عن نفوذ إيران وهيمنتها بأقل الأثمان، عن طريق تأسيس شبكة محكمة من
المليشيات الخارجية التي تعمل بنمط هجين من المركزية واللامركزية، حيث مركزية قرار الولي الفقيه، ولا مركزية تنفيذ المليشيات الشيعية المسلحة. وتتابعت سلسلة من الهجمات المتنوعة في مناطق مختلفة جغرافيا وبطرائق متعددة عسكرياً، إذ تفرض إيران اليوم هيمنتها ونفوذها على القوس الممتد من طهران وحتى البحر الأبيض المتوسط، ومن حدود حلف شمال الأطلسي إلى حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة، أيضاً على امتداد الطرف الجنوبي من شبه جزيرة العرب. فلدى إيران اليوم الآلاف من المليشيات المتحالفة معها، والجيوش التي تقاتل بالوكالة عنها في الخطوط الأمامية في سوريا والعراق واليمن، والتي تملك عربات مدرعة ودبابات وأسلحة ثقيلة، فضلاً عن آلاف من أعضاء الحرس الثوري الإيراني الذين يشاركون في تلك المعارك.
لقد خلص تقرير لمؤسسة فكرية بريطانية عسكرية نهاية 2019، إلى أن إيران تتمتع الآن بميزة عسكرية مؤثرة على الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط بسبب قدرتها على شن حرب باستخدام أطراف ثالثة، مثل المليشيات الشيعية والمتمردين سواء في اليمن أو سوريا أو العراق وكذلك لبنان. التقرير الذي حمل عنوان "شبكات النفوذ الإيرانية" والذي استغرق إعداده 16 شهراً، أكد على أن هذه الشبكات أكثر أهمية لقوة الدولة الإيرانية من برنامج الصواريخ الباليستية أو الخطط النووية المفترضة أو قواتها العسكرية التقليدية. فهذه الشبكة، التي تعمل بطرق مختلفة في معظم البلدان، شكّلتها طهران ومولتها ونشرتها لتكون وسيلة أساسية لمواجهة الخصوم الإقليميين والضغط الدولي. هذه السياسة "دأبت على تقديم ميزة لإيران دون تكلفة أو خطر المواجهة المباشرة مع الخصوم". ويخلص التقرير إلى أن "إيران تقاتل وتربح الحروب "المندلعة داخل الدول"، وليس الحروب بين الدول.
وتتجنب إيران الدخول في الصراعات المتكافئة المباشرة مع الدول، مع العلم أنها قادرة على التغلب على خصومها في حالة اندلاع تلك الحروب. لكن بدلاً من ذلك، تتبع إيران الحرب غير المتكافئة من خلال شركائها من المليشيات والمنظمات، فقد طورت إيران قدرتها من خلال قوات فيلق القدس الموجودة خارج حدودها وتجنيد مليشيات مختلفة - تصل إلى 200 ألف مقاتل - والانخراط في "منطقة رمادية" من الصراعات لا تصل إلى حد الصراعات بين الدول. ففي العراق، استخدمت طهران المتمردين لمهاجمة الجيش الأمريكي، وفي سوريا، دعم قائد فيلق القدس الجيش السوري النظامي لمحاربة المجموعات التي تدعمها الولايات المتحدة، وفي لبنان، تطورت علاقة حزب الله بطهران. فمخزونات الصواريخ الإيرانية والأسلحة المضادة للدبابات، إضافة إلى 25 ألفا من جنود الاحتياط الذين جرى منحهم لحزب الله، قد جعلوا من حزب الله قوةً عسكريةً لفيلق القدس تعمل في الخارج.
خلاصة القول، أن العالم العربي بات خارج المنافسة في الشرق الأوسط، والمفارقة أن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية هي التي أخرجت العرب من المنافسة، وعملت على تقوية نفوذ خصومهم. فقد عمقت أمريكا الانقسامات الدينية والعرقية والطائفية والسياسية داخل العالم العربي، وحاربت القومية العربية، والتعاون الإسلامي، وبدلاً من إضعاف إيران، دخل العرب في حالة من التشظي والفوضى والعجز، وعدم القدرة على مواجهة التهديد، بينما تتوسع إيران ويمتد نفوذها في المنطقة، والولايات المتحدة تسعى إلى تقلص التزامها، والانسحاب نحو آسيا المحيط الهادي، فيما تتعاظم طموحات إيران بامتلاك قدرة نووية، واستخدامها لعملائها ووكلائها للتأثير على العالم العربي.
ويبدو فقدان العرب لمصالحهم بدهياً، لكن اتفاقيات التطبيع المجاني مع إسرائيل تشير إلى فقدان القدرة والكرامة معاً. فقد أوكلتهم اتفاقات أبراهام الأمريكية إلى إسرائيل كحام لتعويض تراجع الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط، بخلق تحالف مع إسرائيل ضد إيران وتركيا، علها تبقيهم في لعبة النفوذ الإقليمي الكبرى. لكن تلك اللعبة الخرقاء لا تحمل في طياتها سوى الخيبة والنكوص والبؤس والخزي، ولا تفضي إلى إضعاف النفوذ الإيراني، الذي بات حقيقة واقعة، فالعرب خارج لعبة النفوذ في الشرق الأوسط.
twitter.com/hasanabuhanya