قضايا وآراء

الحركة الإسلامية وإعادة بناء الذات: الابتعاد عن الشعبوية (6)

1300x600
الخزان البشري الكبير للحركة الإسلامية من المجاميع الصادقة والمخلصة والمؤثرة في بيئاتها الاجتماعية عادة ما تنتهي جهودها في العمل إلى اللاشيء السياسي على أرض الواقع، ودائما النكوص السياسي يلاحقهم من دولة إلى دولة وكان اسمهم ارتبط بالإخفاق السياسي وعدم الوصول إلى الأهداف التي يريدون الوصول إليها.

من خلال البحث يمكن القول إن تفسير ظاهرة إخفاق الحركة الإسلامية في الوصول للسلطة والأهداف السياسية التي تؤمن بها يرد إلى عامل مهم، وهو أن سلة الحركة الإسلامية الفكرية مليئة بالأفكار الميتة التي تقودهم إلى نتائج الإخفاق والنكوص الدائم في تحقيق الأهداف السياسية.

من هذه الأفكار الميتة التي تؤمن بها وتعمل من خلالها الحركة الإسلامية؛ الشعبوية السياسية، والرغبوية في التحليل، والطوباوية في الأهداف، والبعد عن الواقعية التي تختلف باختلاف الزمان والمكان والبيئات الاجتماعية التي يتحركون فيها.

لكن ما هي الشعبوية السياسية، ومظاهرها وأخطارها؟

وما هي الطوبائية السياسية مظاهرها وأخطارها؟

وما هي الرغبوية السياسية مظاهرها وأخطارها؟

الشعبوية السياسية

تعريف الشعبوية: يمكن تعريف الشعبوية بأنها خطاب سياسي يقوم على إقناع الآخرين بناء على مخاوفهم وقناعاتهم السياسية السابقة، ودغدغة عواطف الجماهير لكسب تأييدها في الوصول للسلطة. وهي تختلف عن الشعبية الراشدة التي تعتمد على استمالة الجماهير بناء على ما يحمله الخطاب من أرقام ومعلومات وخطط وبرامج مادية محسوسة تحسن من حياتهم وظروف معاشهم.

قد تكون الشعبوية صناعة غربية من حيث النشأة والنمو فكرة وممارسات، ولا زالت تضرب الدول الغربية بعنف وكان آخر تجلياتها صعود بعض القادة للسلطة من أصحاب الخطاب الشعبوي اليميني العرقي أو الديني البعيد عن الواقعية في تنوع الجنسية الأوروبية حاليا. لكن نكتب هنا عن الشعبوية في خطاب الحركة الإسلامية للقناعة بأن الإسلام السياسي دفع فاتورة باهظة في المنطقة العربية من نتائج هذا الخطاب؛ تمثلت في كثير من النكسات التي تلقاها في ظل الربيع العربي والثورات المضادة.

نكتب هنا لمعالجة الظاهرة والتحذير منها وترشيد الخطاب الإسلامي، ليختصر على الشعوب المنطقة مزيدا من ضياع الوقت وهدر الطاقات الذي تسبب بها اليسار القومي في منتصف القرن الماضي؛ إذ قدم نماذج قيادات شعبوية صارخة، فمنظّر الشعبوية الأول في القرن الماضي ونجمها كان الرئيس جمال عبد الناصر الذي بخطابه الشعبوي واحترافه في هذا الخطاب استطاع إخراج الجماهير لتهتف باسمه حتى بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967. وكذلك الأمر في خطاب الرئيس العراقي صدام حسين، وظهرت أكبر تجلياته في خطاب وزير الإعلام محمد الصحاف في حرب الخليج عام 2003.

البيئة الاقتصادية المحتقنة هي البيئة الحاضنة للشعبوية السياسية، فالجماهير عادة لا تحركها إلا قرقعة الأمعاء الخاوية وضعف الوصول إلى تلبية الاحتياجات الأساسية، فتقوم الشعبوية السياسية لتداعب رغائبها الاقتصادية من خلال خطاب سطحي بسيط يسهل فهمه وهضمه من كل طبقات المجتمع، إلا أنه خطاب يكون بعيد عن الواقع وتعقيدات الوضع القائم.

ملامح الخطاب الشعبوي

يتميز الفكر والخطاب الشعبوي بملامح عدة:

- الخطاب الشعبوي عموده الفقري هو الإنسان النصف كما وصفه مالك بن نبي، وهو الإنسان الذي يتم تعظيم الحديث عن حقوقه والمطالبة بها والإلحاح في استجرارها، لكنه لا يتحدث عن واجباته. فالحديث مع الناس عن حقوقهم دون الحديث عن واجباتهم تجاه دولتهم وأمتهم يخلق الإنسان النصف الذي يكون لديه الاستعداد الجيني فكريا ليكون ضحية الخطاب الشعبوي وناقلا له ليتفشى في المجتمعات المأزومة.

- ادعاء قادة الشعبوية أنهم يمثلون الشعب وتوجهاته وتطلعاته وهمومه، وأنهم يحتكرون الحكم باسم الشعب، وأنهم الأقدر على حماية مصالح الشعب ونهوضه.

- غالبا ما يقوم على هذا الخطاب أشخاص يمتازون بالكاريزما العالية جدا، ويقدمون خطابا يقوم على الانفعالات والعواطف التي تحذر من الاخرين، كالمهاجرن أو الأقليات الدينية والعرقية.. الخ.

- كما أنه خطاب شديد السطحية لأكثر القضايا تعقيدا في حياة الناس، فمثلا يتم تصوير أن قرار الحرب والانتصار فيه يكون بمجرد وجود الإرادة، وأن العدو جبان ضعيف، وأن استمرار العدو مرهون بعمالة وخيانة من في السلطة.. الخ. فالشعبوية خطاب يبسط القضايا المعقدة إلى حد السطحية، ويصور كل الحلول بوصول الزعيم الملهم المفوه ليقوم بحل كل تلك التعقيدات.

- خطاب الشعبوي يقوم على رفض التنوع الاجتماعي بما يلامس فكرة الأغلبية في المجتمعات التي تخاف التهديد من الأقليات في المحيط أو دخول ما يكسر تلك الأغلبية، سواء كانت دينية أو عرقية، وهذا ما يقوم عليه الخطاب الشعبوي اليميني العرقي في أوروبا حاليا.

- يقوم الخطاب الشعبوي عادة على خطاب تاريخي يقدم نماذج ناجحة من التاريخ في ظرفها المكاني والزماني، وينادي بإعادة تلك النماذج ليعيشوا بذات الظروف التي كان يعيش فيها من سبقهم من الأسلاف الذين يحملون ذات الجنسية أو العرق أو اللون أو الدين.

- الخطاب الشعبوي يعادي عادة المؤسسات الحديثة ويسعى إلى تفكيكها، للوصول للحالة الفردية في العمل واتخاذ القرار، على اعتبار أن المؤسسية تحط من طموح خطابه الشعبوي الحالم الذي لا يرتكز على واقع عملي.

آثار الشعبوية السياسية

للشعبوية آثار غاية في الخطورة على المجتمع ومستقبل الدولة ومن يستخدمها أيضا.

- الشعبوية أول خطوة على طريق إثارة الكراهية في المجتمعات، إذ أنها تعتمد على إثارة مخاوف بعض طبقات المجتمع من الطبقات الأخرى. وعادة ما يكون هذا الخطاب موجها للأغلبية مما يثير بعد تفشيه خطاب الكراهية ضد الأقليات، ويكون خطاب الكراهية المقدمة الأساسية للحروب الاهلية في المنعطفات التاريخية وفشل الدولة، اذ تمثل الشعبوية أكبر تهديد للحمة الوطنية واستقرار أمن المجتمعات.

- للشعبوية آثار كبيرة من حيث التشكيك في مؤسسات الدولة والسعي إلى تفكيكها، والحكم الفردي وحكم الكاريزما، فتتسع الهوة ما بين الشعب وما بين مؤسسات الدولة، وتتراجع الثقة بين الشعوب والسلطة التي هي عنصر مهم في استقرار الدول وتقدمها، فتكون الشعبوية الخطوة الأولى لتفكيك الدولة وتحويلها من دولة مؤسسات إلى دولة فاشلة تحكمها القبيلة أو التجمعات الدينية أو القوة العسكرية.. الشعبوية وانتشارها نذير شؤم كبير على استمرار الدولة وديمومتها.

- حصر أصحاب خطاب الشعبوية أنفسهم في إطار ديني أو قومي أو عرقي، وإضفاء صفة القداسة والصفاء والسمو على هذا التجمع وتصوير أنه الأجدر لحكم العالم وسيادته، مما يعمل على تضخيم الشعور بالذات والاستعلاء على باقي الأديان والأعراق والقوميات، فتكون تلك البيئة الخصبة لحصول الانفجارات المجتمعية عند أول منعطف سياسي تمر به البلاد.

- الشعبوية تمثل تهديد حقيقي لقيم الديمقراطية الحقيقية، وإذا ما استطاعت ترسيخ ذاتها من خلال الشخصيات الكاريزمية فإن الدول ستعود إلى حكم الفرد والاستبداد وتراجع حكم المؤسسات وتداول السلطة.

الشعبوية في خطاب الحركة الإسلامية

قد يكون فكر الشهيد سيد قطب رحمه الله بما ملكه من سحر البيان الأدبي والكاريزما الشخصية والتضحية في سبيل ما نظر له، وتقديم النظرية الفكرية للنهوض وفقا لتصوره في إعادة المجد للأمة من خلال إعادة تكرار النموذج الأول للدولة الإسلامية الأولى، ووصفه بأن كل المجتمعات مجتمعات جاهلية، وأن المهمة التي يدعو لها هي تكوين النواة الأولى، شبيها بما قام به الرسول الكريم ومن ثم الدعوة للمجتمع للإسلام. فهي الفكرة والنظرية التي أسست للخطاب الشعبوي داخل أوساط الحركة الإسلامية.

الشعبوية قد تكون السمة الأبرز للخطاب السياسي الذي تقوم عليه الحركة الإسلامية من عدة وجوه..

إذ يصور خطاب الحركة الإسلامية السياسي أن كل مشاكل العالم العربي والإسلامي يمكن أن تُحل بتقوية إيمان الأفراد والالتزام بالعبادات الروحية والفروض الدينية، ورهن النهوض والتقدم في عالم المادية والأشياء بعودة الناس إلى إيمانها وعقيدتها.

على فضل الخطاب الروحي وأهمية العبادات والالتزام بأحكام العقيدة الإسلامية في تحسين علاقة الإنسان بخالقه وعلاقة الإنسان بمجتمعه، إلا أن العقائد لا علاقة لها ببناء النهوض والتقدم، فمجالها الذي جاءت به هو عالم الأخلاق وتنمية عالم الروح، ولم تتدخل في بناء عالم المادة والأشياء، وإن كان السمو الروحي يمثل دافعية وعاملا مساعدا ثانوي في النهوض والتنمية، لكنه لا يمكن له صناعة النهوض والتنمية بمفرده.

شمولية الدين التي نظر لها الإمام حسن البنا ورهن النهوض والتقدم بالالتزام الديني، فجاء سيد قطب رحمه الله فنقل الأمر إلى نقطة أخرى، وتطلب لذلك بناء النواة والجيل الفريد الذي بناه محمد صلى الله عليه وسلم. هذا الخطاب جعل شكل وجود الدولة هو الذي سوف يحل مشكلة التخلف والنكوص الحضاري، فكان للخطاب الشعبوي سحره وجاذبيته. لكن الواقع قال لنا إن قيام الدولة من شأنه أن يعمق حالة التخلف والنكوص إذا لم يكن هناك تصور تفصيلي لحل كل مشكلة من تلك المشاكل، فوجود دولة في السودان حوّل حالة التخلف من حالة عامة إلى حالة مؤسسية، ونتج عنها انقسام السودان والحرب الأهلية في دارفور.. الخ. وكذلك الحال في أفغانستان، وما حصل مع الإسلام السياسي الشيعي في العراق وإيران وجنوب لبنان.. الخ.

الشعبوية تنبه لها بعض مفكري الإسلام السياسي الحديث مبكرا، كالمفكر العراقي الشيخ محمود الصواف الذي كان شديد الحساسية للاندفاع نحو الشعبوية السياسية، إذ زار الشيخ عباس مدني وعلي بلحاج، زعيمي حركة "فيس" السلفية في الجزائر، بعد تقدمهم في الجولة الأولى في الانتخابات التشريعية الجزائرية قبل أن ينقلب عليهم العسكر في ذات عام، وحذرهم في مركزهم في مسجد أحد صاحب الصيت الكبير في ذلك الوقت؛ من مغبة السير على طريق الخطاب الشعبوي الذي ينتهجونه، كما حذرهم من المراهنة على تعاطف الشعوب القائم على الفكر الشعبوي إذ سرعان ما يتبخر هذا التعاطف إذ وجدت الشعوب أنها ستدفع ثمن لهذا التعاطف من حياتها الشخصية ومن قوت أطفالها.

وهو ذات الأمر الذي تنبه له الشيخ عبد الفتاح مورو عندما قال إن الخطاب الشعبوي هو الذي حمل الإسلاميين للسلطة بعد الربيع العربي في تونس، وهي ذات الشعوب التي تم توظفيها في التخلص من التيارات الإسلامية، حيث أن الواقع لم يخدم الإسلاميين في تحقيق خطابهم اللا واقعي الذي قدموه للناس بعد الربيع العربي.

كان أبرز تجليات الخطاب الشعبوي في ممارسات الإسلام السياسي الحديث هو ما قدمته حركة فيس الجزائرية بقيادة عباس مدني وعلي بلحاج، إذ أنها اتكأت على مأثورات دينية تم تحويرها بطريقة تخدم خطابهم، فجاءت بهم الجماهير للسلطة بأغلبية كاسحة دون أن يكون لديهم أي شيء حقيقي يمكن أن يقدموه للناس، سوى أنهم طلبوا من الناس أن يستعدوا للعيش وقفا لتصوراتهم الدينية، حيث أن قادة حركة فيس لم يكونوا يحملون مؤهلات علمية أو فكرية إلا بعض شهادات الكليات المتوسطة في العلوم الشرعية، فانقلب العسكر وتخلت عنهم الجماهير التي حملتهم للسلطة، فدفعهم ذلك إلى منهج العنف مع العسكر وضد الشعب على اعتبار أنه لم ينصرهم في مواجهة العسكر، وهو ما عرف بعشرية الجزائر الدموية.

هو ذات الخطاب الشعبوي استعمله التيار السلفي في مصر بعد ثورة 25 يناير، إذ وصل إلى البرلمان بثاني أكبر حزب سياسي بعد الإخوان المسلمين، وقدم الحزب نماذج صارخة على حملة الفكر الشعبوي، فرأينا كيف كان يزاود هذا الحزب في الخطاب الديني، وقزّم حل كل مشاكل مصر بإقامة الحدود الشرعية، مع أن تطبيق الحدود كما يصفه أهل العلوم الشرعية هو ذيل الشريعة لا رأسها، ورأينا رفع الأذان في البرلمان وعدم التفريق بين قبة البرلمان وقبة المسجد.

ذات الأمر تكرر في تونس قبل أن يقلب الغنوشي ومورو الطاولة على الثورات المضادة في تونس، ويعيدا إنتاج الحركة كراعية وحامية لمبادئ الديمقراطية بدلا من التمسك بالسلطة، مع نبذ الخطاب الشعبوي وتحجيمه في صفوف الحركة، والانتقال بها بخطوات سريعة إلى مربع الشعبية الواقعية التي تستميل الجماهير بناء على ما هو موجود ومتاح في الواقع؛ خطاب يمكن أن يحمل النهضة إلى السلطة من جديد في ظل عجز خصومهم عن تقديم الشيء المأمول للشعب التونسي.