كتاب عربي 21

عودة ريجيني والمواطنة المصرية.. المواطنة من جديد (32)

1300x600
تتجدد الأخبار والحوادث فيعود جوليو ريجيني إلى الواجهة مرة أخرى، وتقفز تلك الكلمة إلى المقدمة التي طالما رددتها أم هذا الشاب الإيطالي الذي قتل على أيدي أجهزة الأمن المصرية بلا رحمة وبغشم شديد وبكل صلف وغرور.. "قتلوه كما لو كان مصريا"، هذه العبارة إنما تترجم حال المواطنة المصرية التي لا وزن فيها لروح أي مصري، وأن القتل والاستخفاف بهذه الروح الإنسانية هي من الأمور التي يرتكبها ذلك النظام بلا أدنى رادع ولا حساب ولا عقاب.

إنها حال المواطن المصري حينما يكون في عقلية العسكر مجرد رقم أو "نمرة" كما يسمى العسكري - للأسف الشديد - عند تجنيده، إنه رقم قد يختفي أو ينتهي بلا جريرة ارتكبها ولا لشيء سوى أنه مصري، مصري مستخف بحياته فاقد الحقوق بما فيها حق الحياة.

هكذا ينظر المجتمع العسكري الفاشي إلى الإنسان المصري والمواطن، وقد لخصت أم ريجيني الموقف ببلاغة شديدة، حينما تؤكد أن أجهزة الأمن قد تقمصت أدوارها واعتبرت ريجيني واحدا من شباب مصر فقتلته بلا هوادة. والأمر المؤكد أن كثيرا مما ارتكبته المنظومة الأمنية بصدد المتابعات لقضية ريجيني إنما تؤكد هذا المعنى في كل مرة. فهل تعلم مثلا أنهم قبضوا على قتلة النائب العام في مصر عدة مرات، ولا يزال هناك من يحاكم بتلك التهمة رغم إعدام البعض بها؟ والأمر كذلك بالنسبة لمقتل ريجيني، فتتفنن الأجهزة الأمنية وتلفق التهم لأفراد كل مرة، بل وتتخلص منهم ناسبة لهم أنهم هم من قتلوا ريجيني، بل إنها لا تتوانى عن اتهام ناشطين بقتله أو بالمشاركة في ذلك.

كل تلك الأمور إنما تؤكد كيف تتعاطى الأجهزة الأمنية وأجهزة النيابة العامة وأجهزة الطب الشرعي، وكافة الأجهزة ذات العلاقة والتي تسير في ركاب هذه الأجهزة الأمنية، فتدبج المقولات كما أرادت وتلفق الاتهامات كما قررت وتقتل من شاءت؛ وهي من قتلت في كل الأحوال، وهي تحاول أن تتخفى تقتل، وهي تحاول أن تسند الجرم تقتل، وهي تحاول أن تخفي الجريمة تقتل. ويظل احتراف القتل مهنة هذا النظام الفاجر يقوم عليها بدم بارد، متبجحا في كل مرة بأنه يرعى الحقوق الإنسانية.

تطل علينا قضية ريجيني في هذا السياق مرة بعد مرة، وبهذه المناسبة يصدر البرلمان الأوروبي بيانا يطالب مصر بالإفراج عن 25 معتقلا، والتعاون مع إيطاليا في قضية مقتل الطالب الإيطالي ريجيني وحماية الشهود، وتوفير البيئة الملائمة لعمل المنظمات الحقوقية التي تضطلع بمهمات في حماية حقوق الإنسان، بل وأكثر من ذلك، فقد دعا المؤسسات الأوروبية بفرض عقوبات في حال استمرار الانتهاكات، باعتبار أن ذلك صار عملا ممنهجا من النظام المصري.

طبعا هذه القرارات أو التوصيات تصدر من جهة لا تتسم بالتنفيذية، وليست أيضا المرة الأولى التي يصدر فيها البرلمان الأوروبي قرارا يتعلق بحقوق الإنسان في مصر، فقد صدر في آذار/ مارس 2016 قرار يتعلق بذات القضية، أيضا القرار المطالب بالإفراج عن أعضاء المبادرة المصرية الصادر قبل أسابيع قليلة. وفي كل مرة وضمن استراتيجية البجاحة التي يتبعها ذلك النظام العسكري الفاشي الانقلابي والذي اختطف كافة المؤسسات وسخرها لمشيئته وأممها لصالحه؛ يقوم بنقد القرار الأوروبي باعتباره تدخلا في الشأن الداخلي لمصر. فنرى مثلا أن برلمان مصر اجتمع في جلسة طارئة وأصدر بيانا ينتقد فيه قرار البرلمان الأوروبي، ولا نعرف مدى حجية برلمان قديم، أو هو برلمان جديد، أو من الذي اجتمع وكيف، ولكنها خطوة تؤكد على معنى تلك المؤسسات المختطفة من جانب العسكر وعلى رأسها ما يسمى بمجلس النواب المصري، فتنتهك حقوق المواطنة مرات ومرات بفعل تلك المؤسسات الزائفة المزورة التي تتخذ بدورها أدوارا ووظائف زائفة وصارت تلك المؤسسات "مؤسسات دولة الضد" وليس فقط مؤسسات "دولة كأن".

وبات هؤلاء جميعا ينافحون عن سلطة فاشية رغم وجود إدانات لا يمكن إنكارها، ولكنها عقلية الإنكار حينما تسود تلك المنظومة للأسف الشديد ضمن بيئة إقليمية ودولية وحكومات رسمية لا زالت تبارك هذا النظام وتتعامل معه ضمن تحقيق مصالحها بالابتزاز والرشاوى الاقتصادية، وكذا تخرج مؤسسات أخرى تسير على نفس المنوال وكأن هذه المؤسسات صارت "مؤسسات لغسيل الاستبداد" مثل "مؤسسات غسل الأموال" لدول بعينها.

لا شك أن الأمر الذي يتعلق بحقوق الإنسان في مصر على هذا النحو وبمناسبة تصدر هذه القضية "قضية الطالب ريجيني" للواجهة مرة أخرى، إنما توجد في ظل بيئة ربما توحي ببعض التغير وترقب لسياسات "بايدن" الرئيس المنتخب الجديد للولايات المتحدة الأمريكية، وهي أمور تبدو واضحة في تصريحات متعددة ومتنوعة ممن ينتمي لتلك الإدارة ولهؤلاء الذين ينتمون إلى الحزب الديمقراطي، حزب الرئيس الأمريكي الجديد.

ومن المهم في هذا السياق أن نعبر عن ضرورة استمرار تلك البيئة شبه المواتية ضمن عمل يؤدي إلى وضع ذلك الملف الحقوقي على الطاولة، ومعالجته دوليا بالحال الذي يستحقه ويتكافأ مع سياسة هذا النظام الفاشي الذي صار لا يتحرك في هذا المجال إلا تحت ضغوط دولية، ويتعامل ببجاحة منقطعة النظير في هذا الملف ضمن مقايضات ومساومات اقتصادية وسياسية.

إن بيان البرلمان الأوروبي إنما يعبر عن إدانة واضحة للنظام القضائي المصري والتشكيك في نزاهته وأمانته، وكشف خطر منظومة انقلابية فاشية اختطفت كافة المؤسسات. ومن المهم أن يكون ذلك مدخلا لموقف لتعميم تلك المطالبات بالإفراج عن 60 ألف معتقلا تقريبا ما زالوا يقبعون في سجون ذلك الانقلاب، ولا يزال هذا الأمر يحتاج العمل الحثيث لاسترداد المفهوم الحقوقي للإنسان، ومفهوم المواطنة المصرية بل واسترداد الدولة المصرية ومؤسساتها المختطفة.

وضمن استراتيجيات البجاحة التي يستخدمها ذلك النظام، قامت بعض تلك المؤسسات المفضوحة والمختطفة في آن واحد بمطالبة الإيطاليين بتسليم المتهمين في قضية الآثار المصرية من البعثة الدبلوماسية الإيطالية. ولا تعد هذه المطالبة هي الأولى وإنما سبقتها مطالبات أخرى لمتهمين آخرين في عدة قضايا أخرى كلما ثارت قضية ريجيني، الأمر الذي يؤكد على أن هذه المؤسسات لا تنشغل بالمواطن المصري ولا حقوقه، وإنما مشغولة بمسألة التسييس والتوظيف ضمن أسلوب المساومة على الإنسانية والمواطنة. فهي قد غضت الطرف فيما سبق عن تلك المطالبات سواء لثبوت تورط مسؤولين مصريين في تلك القضايا أو عدم وجود ما يستدعي الكشف عن هذه القضية لعدم وجود مصلحة مباشرة للنظام، فها هو الإنتربول المصري يطالب إيطاليا بتسليم دبلوماسيين بينهم القنصل الإيطالي لتورطهم في تهريب 22 ألف قطعة أثرية، وكأن هذا النظام قد تذكر أن البعثة الدبلوماسية الإيطالية في مصر في الفترة من 2016 - 2018 قد هربت تلك الآثار بصورة فاضحة، إذ اكتشفت السلطات الإيطالية وليس المصرية تهريب "كونتينر" كامل خرج من مصر باعتباره حقيبة دبلوماسية (أي حقيبة بهذا الحجم ولا تثير فضول أي مسؤول مصري لا لو كانت هذه المؤسسات هي مؤسسات دولة الضد؟)، فهل يمكن أن نتحدث بعد ذلك عن حقوق إنسان أو حقوق مواطنة، في إطار تلك المساومة القميئة والقديمة "سيب وأنا أسيب" التي يعتبرها النظام الانقلابي الفاشي ديدنه واستراتيجيته الأولى في تعاملاته الدولية؟

twitter.com/Saif_abdelfatah