قضايا وآراء

عبقرية الصدق

1300x600
إن كان لي أن أصنف الكتابة، أي كتابة، فإنني أستطيع أن أميز فيها نوعين: الكتابة المعرفية، والكتابة الوجدانية. وإن لحظة التقاطع الكونية بين النوعين هي التي تخلق الطفرات النوعية في العلوم والفنون والآداب. تلك اللحظات من الإيمان المطلق والثقة بالذات وإنتاجها المتفرد، بمعزل تام وتحرر من تكبيل التاريخ والمعارف والعلوم والفنون والآداب وكل العالمين.

إن تلك القفزة الواعية الواثقة العمياء فوق تاريخ المعرفة البشرية، لا تحصل إلا في لحظة كفر مطلق بالقديم، وهي وحدها القادرة على إيجاد فكر بِكر في هذا العالم الذي يعج بالخبرات المعرفية واللغوية وحتى الوجدانية، المدنِّسة لعذرية التفرد الإنساني.

لهذا، كان أكثر ما يجذبنا في أي عمل فني أو أدبي الأصالة والبعد عن التقليد، فالروح تستطيع الإحساس بما هو صادق، لذا إن كنت تؤمن بحرارة الصدق وتشعر به، فذلك يدل على صدقك أنت بالنسبة لجميع البشر، وتلك هي العبقرية. أن تتلفظ بقناعاتك الكامنة، وكونها كانت نتاجا صادقا لإنسان واحد فقط، هو أنت، يكفي لأن تتحول إلى مفاهيم كونية، لأن الأكثر عمقا يتحول في الوقت المناسب إلى الأكثر ظهورا.

إن أهم ما ميز الأنبياء والعلماء والفلاسفة أنهم رغم صوت العقل لديهم، لم ينطلقوا من الكتب والتقاليد، ولم يتحدثوا نقلا عما فكر به الآخرون، بل بما فكروا به هم أنفسهم. على المرء أن يتعلم كيف يميز ويراقب ذلك الشعاع من النور الذي يومض عبر ذهنه، ذلك الذي يعبر من الداخل، أكثر من تتبعه للبرق الذي يضيء سماوات غيره. لكنه للأسف يشيح النظر عن فكرته الأصيلة دون أن يعتني بها - لأنها فكرته - وينصرف عنها إلى أفكار غيره. نحن نعبُر أنفسنا جهلا وتسخيفا، ونخجل من الفكرة الإلهية التي يجسدها كل واحد منا. ربما لهذا السبب لا يسمح الله بأن يبرز تجلياته من خلال الجبناء.

إن ثقة الصبيان في مقتبل العمر بأنفسهم، ورباطة جأشهم، هؤلاء الذين لا يفترون عن إظهار ازدرائهم للسادة، ولكل فعل أو قول يهدف إلى استرضاء الغير، هو الموقف الصحي الطبيعي للإنسانية. تلك الزاوية المتحررة التي يرون بها العالم، ويحكمون بها على الناس بتعجل، إذا كانوا طيبين أو أشرارا، ممتعين أو مملين، دون أدنى تفكير بالعواقب أو المصالح، يصدرون أحكاما مستقلة وغير زائفة. هذا الصبي، نحن الذين نخطب وده، فهو لا يخطب ود أي أحد. أما الإنسان الكبير فهو مكبل في سجنه بسبب وعيه، فإذا ما تكلم أو تصرف بشكل ناجح يصبح ملتزما ملزما بذلك النجاح، يراقبه الآخرون بتعاطف أو بكراهية، وعليه الآن أن يدخل مشاعرهم جميعا في حساباته القادمة، ولن يعود أبدا إلى حياديته ولا مبالاته وصدقه وتفرده.

فمن يستطيع المحافظة على البراءة غير المصطنعة، وغير المنحازة، وغير القابلة للرشوة، وغير الخاضعة للخوف، يكون مرعبا للآخرين، ومهددا لاستقرارهم أيضا. فهو سيصرح بآرائه حول كل القضايا مما يؤدي إلى خوفهم منه ومن أنفسهم. لهذا، من يريد أن يكون إنسانا حقا، يجب أن يكون منشقّا، حرا، لا يمتثل لأحد. عليه أن يفكر؛ إن كل ما يهمني هو ما يتوجب علي فعله، وليس ما يفكر به الناس. هذه القاعدة الشاقة مهمة في الحياة العملية والحياة الفكرية معا، لأن العالم يعاقبك على انشقاقك عنه بالجلد بسوط الاستياء، لذا ينبغي على المرء أن يتعلم كيف يفسر ويتعايش مع ذلك الوجه المتجهم عندما ينظر إليه الأشخاص شزرا، ثم يمضي غير آبه بأحد، مشرع الصدر واثق الخطى.

وهنا يتضح السحر الذي يمارسه العمل الأصيل عندما نتساءل عن سبب الثقة المنطلقة من الذات. والمصدر هو جوهر العبقرية والفضيلة والحياة، ذلك الذي نسميه التلقائية والفطرة، تلك الحكمة الأولية المسماة بالبداهة، ذلك الإحساس بالوجود الذي ينبع من الروح في ساعات الصفاء على نحو لا نعرفه، ذلك الذي ينطلق من المصدر لا الفروع، ومن الذات لا من الآخرين.

ربما لهذا كانت علاقة الروح بالذات الإلهية نقية إلى الحد الذي يجعل السعي إلى توسيط العون أمرا مدنِّسا، فمتى ما كان العقل بسيطا ومتلقيا للحكمة الإلهية ذات المصدر الأصيل فإن الأشياء القديمة تتلاشى. الوسائل والتاريخ والمعلمون والنصوص تهوى الأصنام والهياكل كلها.

لكن الإنسان جبان، اتكالي وعديم الثقة في نفسه؛ فهو لا يجرؤ أن يقول "أنا" و"أفكر"، بل يقتبس عن بعض العلماء والمفكرين، ويجتر ويجتر، ويدور في رحى غيره، يكذّب عقله، ووجدانه، يكتم صوته، ويحاول أن يغطي ذلك النور الإلهي في داخله، مصدر الإلهام، وخالق التفرد، ومغذي الإبداع، يخنقه خجلا من أنه هراء، فمن هو أمام التاريخ كي يتكلم؟ ماذا لديه ليكتب؟ 

لكن كما يفعل محور الأرض، علينا الالتصاق بشدة بالأماكن التي وُجدنا فيها، فأرواحنا لم تخلق لتسافر، بل لتستقر، وإن كان لا بد للمرء من أن يخرج من ذاته، فعليه ألا يخرج أملا في العثور على شيء لا يحمله في نفسه، أو يسافر بعيدا عن ذاته، ليهرم وهو في شبابه بين الأشياء الهرمة أصلا. السفر بعيدا عن الذات هو جنة الحمقى، لأن رحلاتنا الأولى تكشف لنا عدم اختلاف الأمكنة، لكن جنون السفر عارض من أعراض داء أعمق يصيب كامل الوضع الفكري، لأن بوسع كل إنسان أن يكون نفسه، وأن يقدم موهبته الخاصة، أما موهبة الآخر المتبناة فأنت لا تحوز عليها إلا نصف حيازة منقوصة.

لا أحد يستطيع أن يعلّم كل إنسان الشيء الذي يتفوق به على سواه سوى خالقه. فأين هو المعلم الذي كان بوسعه أن يعلم شيكسبير، ويوجه نيوتن وآينشتاين؟ كل إنسان عظيم هو حالة فريدة، لذا يجب أن تذهب بعيدا في الصدق والأمل والجرأة، لأن الروح العصية، الصادقة، العبقرية، شاملة الثراء، كاملة البلاغة، ذات اللسان ذي الألف شق.. لا يمكن أن تتنازل وتكرر نفسها. إنك إن أنصتّ أكثر من اللازم للآباء والمعلمين، فقدت نفسك، فإنك ستردّ عليهم بذات النبرة ونفس اللغة، فالأذن واللسان عضوان من طبيعة واحدة، فإن أنت أطعت قلبك وأصغيت لذاتك، تمكنت من أن تعيد الخلق الأول.