لا شك في أن كثرة المظالم عاقبتها وخيمة على الوطن وعلى الشعب على حد سواء،
وما تعيشه بلدنا الحبيبة
مصر ينذر علينا جميعا بشر مستطير، فالظلم عم وطم، وقسوة
الحياة باتت هي الأصل، ويعيش ملايين من الشعب المصري هذه القسوة وذلك الشظف.
السؤال المستحق في هذا المناخ هو: لماذا تقسو الحياة بهذه الصورة ولم ينجُ
من هذه القسوة إلا قليل، لعل لهم عذابات أخرى، وربما أشد؟
إنها نتيجة تفشي
الظلم والمظالم.
كم من مظلوم يئن ويتوجع ولا يجد يدا حانية تربت على كتفه!
كم من ضعيف يتعرض للبطش والقهر وليس من أحد يساعده أو يدفع عنه!
كم هي المظالم فيك يا وطني ولا بواكي له!
إنه نداء أبعثه لكل صاحب قلب حي أو عقل واعٍ.
إنها صرخة لكل محب لوطننا مصر أو مشفق على شعب يتألم.
إنها كذلك استغاثة خوفا علينا جميعا من أن يأخذنا الله بعذاب أو أن يغرقنا
الطوفان.
إنها عذابات
السجون.
إنه القتل البطيء الذي هو ربما أقسى وأشد من الموت.
إنهم الآلاف ممن غيّبهم النسيان في سجون المحروسة يُقتلون ببطء.
سجن العقرب أو شديد الحراسة 2 أو المنيا العمومي أو دمنهور العام أو الزقازيق
أو الوادي الجديد.. إلخ،
تحاكي جميعها سجون العصور الوسطى. الأعداد مكدسة ولا يوجد تريض (تمشية
لتحريك الأطراف) ولا توجد تهوية للغرفة ولا الفرش.
طعام السجين فيها 35 جرام فول في الإفطار و35 جرام أرز، لا خضار في الغذاء،
وثلاثة أرغفة يوميا وزن الرغيف لا يزيد عن 60 جراما.
لك أن تتخيل كيف تكون نفسية المعتقل الذي رأى كل ذلك بعينه، ثم دخل السجن
ليجده واقعيا.. هو عبارة عن تنفيذ حكم إعدام.
ولا يوجد شيء يمكن وصفه بالرعاية الطبية، ولذلك لا يُستغرب أن يموت 60 شخصا على
الأقل في سنة واحدة، في ما عُرف بالموت البطيء الذي لم يترك شابا ولا امرأة ولا
شيخا إلا وهو يقترب منه كل يوم أكثر فأكثر.
آهات بل صرخات واستغاثات خرجت من هذه السجون فلم يتحرك أحد، يموت الواحد
منهم تلو الآخر ولا حياة لمن تنادي.
هؤلاء المساكين يرون أنفسهم مجرد أرقام تموت، فعدوا أنفسهم موتى وهم أحياء،
وفي الحقيقة هم فقدوا صلتهم بالحياة، وبالأحياء.
فلا زيارات يقابلون فيها أهلهم ولا أي وسيلة للتواصل مع الحياة، ولا جرائد حتى
الرسمية ولا مذياع ولا كبائن مشاهدة أو استماع أو اتصال.
إنها دوامة متصلة وطاحونة تدور، وللأسف لا أحد مستفيد.
حتى نظام البغي والبطش، لم ينل من عزيمة هؤلاء ولم يركعوا ولا استسلموا.
أريد أن أستمع إلى رد رجل رشيد من الجهات السيادية المشرفة على السجون عن
هذا السؤال: هل نجحت سياستكم في التجويع والعزل والقتل البطيء في تركيع أو تليين
هؤلاء الشباب؟!
اذكر لي أكبر عدد وقَّع على ما أسميتموه المبادرة الخاصة بالاعتراف بالسيسي،
فأكبر عدد ذكر حتى الآن وهو مبالغ فيه؛ 1350 شخصا من إجمالي عدد 50 ألف معتقل، فإذا
كان قتلكم البطيء وتجويعكم وعزلكم، بل وإعداماتكم وأحكامكم الزائفة وغير العادلة وإخفاؤكم
القسري والقتل خارج إطار القانون؛ كل ذلك لم يثمر إلا مزيدا من تأكد هؤلاء الشباب
أنكم قتلة وظلمة ومستبدون.
ومن عجب أن معظم هؤلاء
المعتقلين (65 في المئة) لا ينتمون لأي تنظيمات على
اختلاف أنواعها، بعضهم زُج به في قضايا انتقاما منهم دون أي صلة لهم فعلية بهذه
التنظيمات، وبعضهم كان يشارك عفويا أو لأنه كوي بناركم هو وأولاده، فازداد فقرا
ومرضا وجهلا تحت حكمكم المستبد عبر تاريخه الطويل، فلما رأى هؤلاء جميعا ما يطبق
من سياسات القتل البطيء في السجون، زادت الفجوة بينكم وبينهم، وارتفعت حرارة
الكراهية والعداوة.
أليست أعداد القتلى في السجون تستحق النظر في المآلات؟!
أليست الكراهية والرغبة في الانتقام والثأر بلغت حدا يسترعي الانتباه والتيقظ؟!
هل لدى الحلول الأمنية ومزيد من إجراءات البطش والتنكيل حلّ لمأساة الواقع
وواقع المأساة؟!
إلى أين سنصل مع مزيد من التجريد في السجون والتغريب في سجون أخرى، مع
زيادة جرعات التجويع والقتل البطيء وإلغاء الرعاية الطبية تماما؟ إنها نفس
العقلية الغبية التي لا تفكر في كيف تستفيد من هذه الحوادث والأحداث، بمراجعة هذا الأسلوب
العقيم القائم على القهر، فإذا ما احتقن الموقف فمزيد من القهر.
أليس في القوم رجل رشيد؟!
كم يجني الظلم والاستبداد والقهر على مصر؟!
هل خلت منصات القيادة في مصر من إنسان له حس وطني؟!
لا نتكلم الآن عن كبت الحريات وتزوير الانتخابات وخدمة وحماية النظام لا
الدولة.. لا نتكلم على القضايا الملفقة وزج الناس في السجون بغير إثم أو جريرة.. فقط
نفس إنسانية تكفل لهؤلاء المساجين حقهم في الحياة، فتفتح الزيارات الأسبوعية ويُسمح
بالطبلية الأسبوعية، والتريض بما لا يقل عن ثلاث ساعات، وفتح الكافيتريا والكانتين
لتعويض العجز في التعيين.
أليس من الواجب في زمن وباء كورونا مراعاة تغذية المرضى والأغذية التي تساعد
على رفع المناعة لمقاومة كورونا؟
ما الذي يمنع دخول الجرائد حتى الرسمية فقط والمذياع، وغياب منظومة الرعاية
الطبية الحالية؟!
أليس من حقوق إنسانية واجبة للتعامل مع الحالات المزمنة ومضاعفتها والحالات
الحرجة؟
أليس في القوم رجل رشيد؟!
الأمر لا يقتصر على مراجعة التصرفات أو القرارات الأمنية التي تحكم وتتحكم
في السجون وأماكن الاحتجاز والقرارات الأمنية وغايتها قبل هذا التصرف، والقرار
السياسي الحكيم الذي ينزع فتيل الأزمة وينقذ البلاد والعباد من المستقبل المظلم، القائم على تعميق حالة الانقسام المجتمعي والكراهية المتبادلة والانتقام المتبادل.
والكل يفعل ما يراه، فلا نظام ولا قوانين تحكم المشهد وإنما هي الغاية التي تعيش
حالة من الصراعات دون النظر إلى الحالات.. كم من القرارات يحتاجها الموقف لإنقاد
البلاد؟ هل يظل الجميع في مدرجات المشاهدين؟
- أين الوطنيون من كبار رجال الدولة؟
- أين الوطنيون في القوات المسلحة؟
- أين الوطنيون رجال الشرطة؟
- أين الوطنيون في علماء الدين ورجال الدين المسيحي؟
- أين الوطنيون في العلماء وأساتذة الجامعات؟
- أين الوطنيون في رجال الأعمال؟
هل تنتظرون حتى تتحقق النبوءة الإسرائيلية التي ينتظرونها حتى تتحول مصر إلى
أنهار من الدماء، فالفقير سيقتل الغني انتقاما من تجويعه، والمسلم يقتل المسلم،
والمسيحي يقتل المسيحي، والقتل بدون تمييز..؟ فمن غرس الحنظل لا يذوق إلا مرّا.
لك الله يا مصر.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.