كنت قد تحدثت في
مقال سابق عن اعتقال الدكتور محمود عزت، وعن التوقيت، ووعدت بالحديث عن الآثار، ومن أهم الآثار التي تناقش الآن: مَن سيخلفه في هذا المنصب، منصب القائم بأعمال المرشد؟!
بداية أريد أن أقدم قبل الحديث عن هذا الأمر، بلفتة تاريخية مهمة، تتعلق بتاريخ
الإخوان مع أزمة القيادة، وكيف كانت تتصرف معها سابقا وحاليا، ليكون القارئ وأعضاء الجماعة أنفسهم على وعي بما يجري في تنظيم
لم يعد أحد منهم يفهم كيف يسير، ولا على أي هدى يمضي، ولا على أي منهج أو لائحة يتصرف مَن يقومون على أمره الآن.
لقد تعرضت جماعة الإخوان لأزمة القيادة، وذلك في عهد البنا نفسه، حين يعتقل، وبعد استشهاده. فبعد استشهاده كانت هناك أزمة، مَن يتولى هذا المنصب المهم والخطير في الجماعة؟ وقد تولى الأمر لشهور قليلة حتى انتخب الإخوان مرشدا؛ الشيخ أحمد حسن الباقوري رحمه الله، ثم اجتمع الإخوان، وقرروا اختيار الأستاذ حسن الهضيبي مرشدا، وذلك عندما رأوا أن أزمة الجماعة تولدت عن صدام حدث مع بعض رموز الدولة أيام الملك فاروق، وخاصة بعد اغتيال رئيس الوزراء، ومن قبله القاضي الخازندار.
شعرت الجماعة أن لديها أزمة مع الجماهير، وبخاصة مع القضاء وأهله، ومع النخبة الحاكمة، فاختارت الهضيبي لأسباب عديدة، كان أهمها: أنه قاض من طبقة أرستقراطية، طبقة النخبة، وباختياره لا شك سيتم تحسين الصورة الذهنية عن الجماعة، فكان اختيارا موفقا في لحظتها، لو تم الأمر وتُرك الرجل يدير بما يؤمن به.
ثم تكررت الأزمة عندما توفي الهضيبي الأب رحمه الله، وكان يدير أمر الجماعة إخوان خرجوا من
مصر، ولم يكن يُعرف لهم مرشد، فكانت قيادة أشبه بمؤسسية، وكان هدفهم الدعوة والحفاظ على التنظيم، دون اهتمام برأس التنظيم، ولا بمَن يقوده.
ولذا، انطلقت هذه القيادات الشابة والكبيرة، تنشر الدعوة في كل أصقاع الأرض، عربا وغربا، فرأيناهم يقيمون علاقات مع الخليج، وأقاموا مراكز ومساجد في أوروبا وأمريكا.. خرج بعدها الإخوان من السجون في عهد السادات، ليجدوا انتشارا هائلا للجماعة في بلدان لم يكن لهم فيها وجود.
ثم فكرت المجموعة القائمة على إدارة التنظيم، في اختيار مرشد بعد الهضيبي الأب، فوجدوا أنهم بحاجة لعالم منفتح، يخلف الرجل، فكلموا
الشيخ القرضاوي، فاعتذر ورشح الشيخ الغزالي، ولم يتشجعوا لذلك، للخلاف القديم معه، وأنه ربما يجد معارضة ممن خرجوا من السجون. فاختاروا الأستاذ عمر التلمساني كشخصية منفتحة، يريدون بها العودة للمجتمع المصري، بعد غياب سنوات قاربت العشرين سنة في السجون، وكان اختيارا موفقا كذلك.
وفي عهد مبارك، تولى الهضيبي الابن موقع المرشد، ووجد الجماعة محاصرة، ووجد جمودا في هياكلها، ورأى أن الجماعة تحتاج لشخصية كبيرة علمية، تعيد إليها بهاءها ورونقها القديم، فأرسل رسالة خاصة مع الدكتور محمد عمارة رحمه الله، يطلب فيها من القرضاوي أن يقبل أن يتولى منصب المرشد، لحاجة الجماعة له، ولاسمه وشعبيته، وهو ابن من أبنائها، وإن ترك التنظيم، واعتذر القرضاوي بلطف، في قصة طويلة كنت شاهدا على كل تفاصيلها.
هذه نظرة سريعة على
أزمات الإخوان مع القيادة، وكيف كانت تتصرف معها. وقد كان التوفيق إلى حد كبير يحالفها فيها، وكيف كان الصف الإخواني يعمل معها، وينشر أفكارها، ويقيم علاقات تعوض ما خسره داخل مصر، بسبب الضربات الأمنية منذ عهد عبد الناصر. ولعل هذا ما يفسر سر حزن القرضاوي الشديد لرفض القيادات الحالية لمبادرته للم شمل الجماعة، إذ عزّ عليه أن يرى بناء شارك فيه، وأقامه مع إخوة له، أن يأتي من يرفض مبادرته لإنقاذه من الهدم والتصدع، بدعوى أنه خارج التنظيم!
ثم جاء انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013م، ووُجهت ضربة للإخوان، وقد تمكن عدد من قيادات الجماعة من الخروج خارج مصر، ولكن للأسف كانت محنة الإخوان الداخلية أكبر من محنتها التي أرادها لها النظام الانقلابي. فقد رُزقت الجماعة بقيادات تبحث عن الخلاف بأي شكل، وفتت كل كيان في الجماعة كان موحدا حولها، لمجرد النقاش والخلاف.. يريد الصف شيئا، وتريد هذه القيادة عكسه، في تفاصيل طويلة لا يتسع المقام لسردها. لكن النظر على الخسارة التي تكبدتها الجماعة في ظل هذه القيادة من حيث خسارتها على مستوى: العلاقات، والدول، والأفكار، والتعاطف الدولي والشعبي، ينبئك عن حجم الكارثة.
دبَّ الخلاف داخل الجماعة على القيادة وصلاحياتها، وخرج ما اصطلح عليه بالجبهة التاريخية، وجبهة الشباب. وهي تسمية غير دقيقة، لكن سنتغاضى عن ذلك. وقد قررت القيادات أمرا، قالته لنا، وتحديدا الدكتور محمود حسين، فقد قال لنا: أنا لم أعد أمينا عاما للجماعة، وقال: كل مَن يخرج من مصر، يترك منصبه التنظيمي، وهو مجرد فرد عادي في الخارج.
ولما نشأ النزاع على القيادة بعد إصرار شباب الجماعة على أن تكون هناك انتخابات تنتخب أفرادا يديرون أمر الجماعة، ويعملون على إنهاء الانقلاب، وتم انتخاب مكتب الخارج، أو ما سمي إعلاميا "مكتب إدارة الأزمة".. منذ هذا الوقت بدأت النزاعات على القيادة، فخرج في هذا التوقيت بعد طول غياب الدكتور محمود عزت، بمسمى القائم بأعمال المرشد، ليعين الأستاذ إبراهيم منير نائبا للمرشد، ويعيد تثبيت محمود حسين أمينا عاما.
وحقيقة الأمر: لم يكن محمود عزت يدير شيئا، ولا يحكم أمرا، ولا يصدر بيانا، بل الحقيقة أن إدارة الجماعة كلها من جميع الأطراف كانت تُدار من الخارج. فالبيانات يقوم بكتابتها الأستاذ محمود الإبياري، يراجع هذه البيانات أو ينظر فيها منير وحسين، ومن حولهما. وبذلك حسمت هذه المجموعة الخلاف الدائر داخل الجماعة حول القيادة لصالحها، ولو ظاهريا، وإعلاميا، ففي الأمر تفاصيل كثيرة لا مجال لها الآن.
بعد أن
اُعتقل محمود عزت فك الله أسره، وعدم وجود معارضة تنازع هذه القيادة الأمر في التنظيم، يعود الخلاف في ما بينها دون وجود معارضة، فمَن سيخلف عزت؟ الطبيعي والمنطقي أن يخلفه منير، لأنه نائب مرشد، سواء صح القرار بتعيينه أم لم يصح، لكن إن صار قائما بالأعمال فمَن سيكون نائبا؟ ولا يوجد من أعضاء
مكتب الإرشاد المصري سوى محمود حسين، فهو الأحق منطقيا بالقائم بالأعمال، لكن ستأتي مشكلة أكبر، فقد كان حسين رفض أنه أمين عام سابق، بحجة أن مَن عينه هو مَن يملك أن يعزله، ومَن عينوه
ماتوا أو في السجون!!
فلو صار محمود حسين قائما بالأعمال، يتطلب الأمر انتخابات مكتب إرشاد، يختار منه أمينا عاما جديدا، أي أن يتم تشكيل مكتب إرشاد خارج مصر، وهذه ستكون سابقة، لأن أعضاء مكتب الإرشاد لمصر لا بد أن يكونوا في مصر، ومعظم التنظيم اُعتقل في مصر. إنها مشكلة: تحضير العفريت، وعدم استطاعة صرفه.
لقد كان اختيار منير نائبا ليتم وضع اسمه على كل القرارات التي تصدر ضد معارضي القيادة داخل الجماعة، سواء داخل مصر أو خارجها، ولم يكن بالحسبان اعتقال عزت. وحسين يرى نفسه الأحق بها الآن، وإن كانت صحة حسين ومنير لا تعينهما على المهمة، فاعتلال صحة كل منهما يعيق. ويبقى المدير الفعلي للتنظيم وهو "الإبياري"، وعلى ذلك شواهد كثيرة، ولكن من العسير أن يتقبل الصف شخصا لا يعرفه، وليس له تاريخ معروف عنده، خاصة في وجود قيادات أخرى أشهر، وأكثر تاريخا، وإن لم تكن في مناصب، مثل الأستاذ محمد البحيري وغيره، لكن عامل السن والصحة أيضا سيكون عائقا.
هي معركة تدور بين هذه الأطراف المذكورة حول من الأحق بها، فهل يحسمها حسين ليكون قائما بالأعمال شكلا وفعلا؟ أم ستكون لصالح منير شكلا، ويدير فعلا حسين بشراكة الإبياري معه كما هو حاصل الآن؟
ولعل ما يعيق الإعلان الآن عن خليفة محمود عزت؛ ما يدور حول الدعوات لـ"20 سبتمر" من مظاهرات، سواء نزل الناس أم لم ينزلوا، وسؤال الناس: عن موقف الإخوان منها. فالإعلان الآن عمن يخلف عزت، لا شك سيجعل أصابع الاتهام تشير إليهم بأنهم يصرفون الناس عن هذه الفعالية، وتضاف تهمة جديدة إليهم، تذكر بتهم سابقة حول نفس الملف. أما عن الصف الإخواني ودوره في الموضوع، فيصدق عليه قول الشاعر:
ويُقضى الأمر حين تغيب تيْمٌ ولا يستشارون وهم شهود!!
فلم تتم استشارتهم في اختيار عزت، ولم تتم في اختيار منير، ولم تتم في أي قرار مصيري أو غير مصيري، ولن تكون، لأن الأمر لا يدور على لوائح أو مؤسسية، وهو ما يبيّن الفرق بين القائمين على أمر التنظيم في الخارج أيام محنة الخمسينيات والستينيات، والقائمين عليه الآن.
والأهم من نقاش مَن يكون رأس التنظيم الآن، هل سيفرق وجوده أم لا؟ في رأيي ورأي كل المتابعين للشأن التنظيمي للإخوان أن "أحمد مثل الحاج أحمد"، فلم يكن عزت بوجوده قائما بالأعمال، يفعل شيئا يذكر للجماعة، دعوة أو تنظيما، ولن يفعل مَن يخلفه شيئا، فكل ما مضى من انتكاسات كانت بأيديهم.
ولأن أزمة الجماعة ليست في الشخص الذي سيقوم بأعمال مرشدها، بل أزمتها أكبر من ذلك، أزمتها في إعادة هيكلة وإعادة ترتيب أوراقها كاملة،
فأزمتها الكبرى أن تكون مؤسسة، ذات أهداف واضحة تناسب ظروفها الراهنة، مبنية على لوائح جديدة، تنتج قيادة تتناسب مع المؤسسة في شكلها الجديد، تحترم صفها، وتحترم كلمة هذا الصف، وقتها ستتطلع أنظار الجميع، إلى من سيكون قائما على أمرها.
twitter.com/essamt74
Essamt74@hotmail.com