مقالات مختارة

تركيا تريد تصحيح مأساة "كاستيلوريزو"

1300x600

يعيش شرق المتوسط في الوقت الراهن حلقة جديدة من التوتر السياسي، وهذه المرة بين الدول التي تنتمي إلى المنظومة نفسها، أي الغرب، أو المتعاطفة مع الغرب والعضو في منظمة شمال الحلف الأطلسي. ويدور النزاع حول الموارد الطبيعية مثل الغاز، ولكنه في العمق انتفاضة ضد غبن التاريخ الذي لحق بتركيا بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية، ويحمل عنوان «مأساة كاستيلوريزو» التي ترغب في تصحيحها.

يطفو دوليا ملف جديد وهو ملف الثروات الطبيعية، وعلى رأسها الغاز، الذي يعيد تشكيل خريطة المياه الإقليمية الوطنية والدولية

خلال السنوات الأخيرة، تحول شرق المتوسط إلى نقطة رئيسية في الأحداث الدولية، نتيجة الحرب في سوريا، وتدخل الأطراف الدولية، ولاسيما الولايات المتحدة وحلفائها، ثم روسيا وبعض الدول العربية.

وتحولت المنطقة إلى فضاء لتمركز عسكري كبير وساحة لتجريب عدد من أنواع الأسلحة الحديثة، حيث جرّب البنتاغون أسلحة حديثة، وفعلت روسيا الأمر نفسه بطائرات سوخوي وصواريخ كليبر والتشويش على الغواصات الغربية ومنها البريطانية. وبعد تراجع الملف السوري نسبيا، يطفو ملف جديد وهو ملف الثروات الطبيعية، وعلى رأسها الغاز، الذي يعيد تشكيل خريطة المياه الإقليمية الوطنية والدولية.

وتشهد المنطقة إيقاعا غير طبيعي من التحالفات والمباحثات، قطبا هذه التحالفات، اليونان بدعم من فرنسا ومصر وإسرائيل وقبرص، ثم تركيا التي تحظى بتعاطف نسبي من الولايات المتحدة، وبعض الدول العربية مثل قطر والجزائر. ويتمحور النزاع حول تحديد المياه الإقليمية في منطقة مكتظة بالدول، حيث تتداخل هذه المياه الإقليمية، ويعجز قانون البحار الدولي المصادق عليه في التسعينيات عن تقديم أجوبة شافية. وتفاقم الوضع بعد العثور على الغاز الطبيعي، الثروة الطاقية التي تكتسب أهمية كبرى، كبديل نسبي للبترول وكورقة ضغط مستقبلا.

وهذا النزاع قابل للانفجار بسبب إصرار تركيا على الصرامة، بما فيها الحل العسكري. والسوابق تنذر بالتوتر الحقيقي، فقد أقدم هذا البلد على إجراءات عسكرية مثيرة، ويتجلى الأول في عدم التردد في إسقاط طائرة السوخوي 24 الروسية، عندما اقتربت من الأجواء التركية يوم 24 نوفمبر 2015، نفذت العملية رغم قوة روسيا العسكرية. ويتجلى الحادث الثاني خلال يونيو من السنة الجارية عندما كادت فرقاطات تركية، تطلق النار على سفينة حربية فرنسية عندما حاولت اعتراض سفينة تركية كانت تنقل أسلحة إلى ليبيا.

ويمكن تلخيص النزاع الحالي في الشرق الأوسط في ثلاث نقاط رئيسية وهي: الغبن التاريخي، دور الغاز، وأخيرا الزعامة الإقليمية. وتحضر دول في بعض النقاط أو الملفات، وتغيب في أخرى، لكن تركيا حاضرة في الملفات الثلاثة.

أولا: الغبن التاريخي، الكثير من الدول التي تعرضت للاستعمار أو التآمر تشتكي من حيف الاتفاقيات، التي جرى توقيعها في الماضي، أو جرى فرضها عنوة على الدول. وهذا ما يفسر النزاعات الحالية في الكثير من الدول الأفريقية، مثل حالة المغرب والجزائر. والآسيوية مثل باكستان والهند، بل حتى في أمريكا اللاتينية مثل حالة بوليفيا، التي تطالب تشيلي بالشواطئ التي فقدتها بداية القرن الماضي.

ويحدث هذا في حالة تركيا، التي تحمل مأساتها عنوان «جزيرة كاستيلوريزو»، وهي واحدة من عشرات الجزر اليونانية البعيدة عن البر اليوناني، ولكنها تقع على بعد كيلومترات معدودة من شواطئ تركيا، وكأنها سفن تحاصر هذا البلد، أي أن مياهها الإقليمية بمثابة حبل يطوق عنق تركيا ويخنقها. هذه الجزيرة بالضبط تبعد عن تركيا ثلاثة كيلومترات، وعن اليونان 550 كيلومترا. وتوجد حالات لجزر تحت سيادة دولة، وقريبة من أخرى مثل حالة استعمار إسبانيا لبعض الجزر القريبة جدا من المغرب، ولكنها غير استراتيجية، وكثيرة العدد مثل حالة تركيا واليونان.

ويجري الحديث عن العثور على الغاز في مياه هذه الجزيرة، وسيكون من حظ اليونان وتحرم منه أنقرة، لهذا فإن الأتراك يتحركون ضد الغبن التاريخي الذي لحقهم، ويرفضون التوقيع على اتفاقيات قانون البحار. ولم تشكك تركيا في اتفاقية لوزان، الخاصة بالحدود البحرية سنة 1927، واتفاقية باريس سنة 1947 ثم اتفاقية مونتيغو باي سنة 1982. وكادت أن تندلع حرب بين اليونان وتركيا سنتي 1987 و1996 بسبب محاولة اليونان توسيع مياهها الإقليمية في بحر إيجه على حساب تركيا.

دور الغاز: يعتبر الغاز الثروة الطبيعية والطاقية، التي بدأت تكتسب أهمية قصوى مثل البترول في أواسط القرن الماضي، أي أنه محرك رئيسي للتحالفات الجيوسياسية. ويدعم الاتحاد الأوروبي اليونان في النزاع مع تركيا، أملا في فوز أثينا بآبار الغاز لتقلل من ضغط بعض الدول عليها، التي توظف ورقة الغاز وأساسا روسيا. وتتصدر هذه الاستراتيجية فرنسا أساسا، وبشكل أقل إيطاليا ثم ألمانيا.

الزعامة الإقليمية: عكس غرب البحر الأبيض المتوسط الذي يعيش نوعا من الاستقرار بسبب التفوق التاريخي لدول الضفة الشمالية، مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا على حساب الضفة الجنوبية مثل المغرب والجزائر، ويشهد شرق هذا البحر تغييرات جوهرية نتيجة التمركز الروسي الجديد، وبدء الانسحاب الغربي وأساسا الولايات المتحدة، ثم الرغبة التركية الجامعة في تزعم المنطقة، ومحاولات فرنسا الحيلولة دون ذلك. ومشروع زعامة تركيا لشرق البحر المتوسط، مرتبط بمشروع الوطن التركي بعلمانييه ومتدينيه، وهو قرار يعود إلى أربعة عقود على الأقل. في الثمانينيات، أدرك ما يمكن وصفه بالإستبلشمنت التركي من جيش واستخبارات ودبلوماسية، صعوبة تحقيق حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكان الأتراك أمام معضلة كبيرة وهي: إما زعامة شرق المتوسط، أو البقاء في ذيل الغرب والاتحاد الأوروبي، وكان الحسم لصالح النقطة الأولى. ويعمل الأتراك على هذا المشروع منذ مدة، ويأتي دور أردوغان في تسريع الإيقاع، مستغلا القفزة النوعية التي تحققها البلاد اقتصاديا وعسكريا، مستغلا كذلك التناقضات الجيوسياسية في المنطقة، ولن يتوقف المشروع مع ذهاب الرئيس الحالي.

قد يكون أردوغان متطرفا أو يحلم ببعث الإمبراطورية العثمانية، لكن لنتأمل المشهد: جزيرة كاستيلوريزو تقع على بعد ثلاثة كيلومترات من البر التركي وتبعد 550 كلم من البر اليوناني، لكنها تحت سيادة اليونان، وهي جزيرة غنية بالغاز. مثل هذه الحالة الشاذة لا توجد عند العرب، ولكن عند الدول التي تعرضت للاستعمار والتفكك، كل دولة تعيش مأساة كاستيلوريزو، ويجب تصحيح التاريخ.

 

القدس العربي