تقارير

"يافا".. هل كانت الطعنة الغادرة في القلب؟ لاجئة تجيب

لاجئة فلسطينية: ورثنا حب يافا عن آبائنا وأجدادنا برغم أننا عانقنا الحياة في الشتات (الأناضول)

منذ الثالث عشر من نيسان (أبريل) عام 1948 وحتى الآن إثنان وسبعون عاماً وما يزيد عن أربعة أشهر انصرمت.. ولكن جرح يافا ما يزال ينزف في قلوبنا. ذات ظهيرة بائسة مغبرَّة اختبأت شمسها خلف غيوم عابسة، غادرنا يافا.. مشاهد القتل المريع والتدمير الشنيع ودعتنا بقسوة حتى حافة البحر.. رحلنا عنها يومها لا نروم إلا السلامة بأرواحنا، يسيطر الرعب علينا ويمضغنا الشعور بالهزيمة.. لم نحمل معنا شيئاً سوى أجسادنا وما اتفق من الملابس التي تسترها.. وصل بنا الذعر درجة أنست البعض منا صغيره أو صغيرته في المهد حين ولى هارباً من القذائف التي طاردت الجميع بلا أي استثناءات.. 
وكأن القيامة قد قامت "يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى..."، كان ذلك حال يافا آنذاك في ذلك اليوم الأسود في تاريخ البشرية. 

سُدَّت جميع المنافذ أمامنا بدبابات تمطر قذائف من نار، وعصابات لا تكف عن قنص كل ما يتحرك.. الجهة الوحيدة التي تُركت لنا هي ناحية البحر.. وبالله عليكم، هل من عادة البحر أن يأخذ الهاربين ثم يعيدهم، أم أنه يأخذهم دون رجعة؟ ألا يلتهمهم إلى جوفه وينتهي الأمر أم أنه قد يلفظهم ـ من شدة رحمته ـ على رمال شواطئ بعيدة ويشتتهم كما يُشتت الزبد دون قصد أو تخطيط؟

كانت السماء تُمطر لهيباً، والأرض تميد تحت أقدامنا وترتجُّ تحت وطأة دوي الانفجارات وسقوط القنابل.. كأنها ساحة حرب بمعنى الكلمة، برغم أن يافا آنذاك كانت لا تحمل السلاح.. فهل تجيدُ سيدة الجمال والثقافة حمل البندقية أم تتقن فن إصدار الكتاب وطبع الصحيفة وفنون الكلمة وزراعة البرتقال وبثِّ شذاه وعرض المسرحيات ونظم الشعر في أمسيات الهناء...؟ 

يافا المسالمة الحالمة.. لم تصدق أن هناك قطيعاً من الذئاب حقاً بات يتحلَّق حولها ويتجهَّز للانقضاض يريد افتراسها.. 

كان من بين أبناء فلسطين أحرار قضمت الحمية قلوبهم فهبُّوا للدفاع عنها، بإمكانياتهم الضئيلة وتدريبهم القليل، وكيف لا يكون الحال واهناً كذلك وحكومة الانتداب البريطاني التي تسيطر على فلسطين تكتفي بإثبات تهمة امتلاك السلاح لتُعدم الفلسطيني حتى وإن لم يطلق به رصاصة واحدة، بينما تفتح الموانئ ونقاط العبور لليهود المحتلين يستوردون السلاح والذخيرة عبرها، ويمارسون البطش والقتل دون حسيب أو رقيب.. بل تتواطأ معهم وتدعم وجودهم.

 

يافا المسالمة الحالمة.. لم تصدق أن هناك قطيعاً من الذئاب حقاً بات يتحلَّق حولها ويتجهَّز للانقضاض يريد افتراسها..

 



حارب أبناء فلسطين بما يستطيعون من إمكانيات ضئيلة، ولكن: هل يستطيع الكف أن يجابه المخرز؟ بل وينتصر عليه أيضاً؟؟ 
آه لك يا يافا.. وألف آه!!

يا سيدة الجمال، وحورية البحر.. ما تزال رائحة البرتقال والبحر والتراب تعبق في الخلايا العميقة في أدمغتنا.. 

وانتبهوا أرجوكم: "من قال لكم إن الحب لا يورث، فلا تصدِّقوه!".. ورثنا حب يافا عن آبائنا وأجدادنا برغم أننا عانقنا الحياة في الشتات.. عايشنا أدق تفاصيلها في حكاياتهم التي ما فتئوا يروونها دون أن يملُّوا.. فيافا ابنة كنعان العربية المسلمة الفلسطينية ما تزال حية تُرزق في نفوسهم برغم السنين المنصرمة وممارسات محتل يظنُّ بأن مثل يافا قد تُنسى من أرواح وقلوب وعقول من عرفها يوماً حتى وإن لم يسكنها.. فحبها يتشبث بشغاف القلب لا يفلته أبداً.

يا ماء البحر.. خبرنا عن يافا. هل ما زلت تقبِّل شواطئها؟ هل ما فتئت تعانق رمالها؟ هل ما برحت تطلُّ عليها وتكحل عيونك برؤيتها؟ بالله عليك.. احمل سلامنا لها، وقل لها إننا ما نزال على العهد.. وإسألها: أمازال الحنين يعتمل في قلبها والشوق يتطلع لرؤية من رحلوا يوماً آبقاً عنها؟

هل مراكبها ما زالت تجوب البحر وتهمس في أذن الأسماك؟ بيوتها حاراتها جوامعها أسواقها.. هل ما زالت تذكرنا؟ 

بالله عليك يا ماء البحر، وغيوم السماء، وغبار الطريق.. حدثوني عن يافا! قل ما شئت.. لا يضير، لا شيء سخيف أو معدوم القيمة حين يتعلق الأمر بيافا، جرح القلب الغائر.

*كاتبة وروائية فلسطينية