مقابلات

خبير مالي: انهيار أسعار الطاقة إيذان ببدء عصر النفط الأحفوري

خبير تونسي: إغراق سوق النفط كان بطلب أمريكي أولا (أنترنت)

مثّل الهبوط الحاد وغير المسبوق لسعر البرميل للعقود الآجلة للنفط الأمريكي Wti، الإثنين 20 نيسان (أبريل) الجاري، والذّي سجّل رقمه الأدنى منذ أكثر من ثلاثة عقود، من خلال نزوله دون مستوى الصفر دولار أمريكي للبرميل الواحد، زلزالا تجاريا مدوّيا ينبئ بحدّة ارتداداته الاقتصاديّة والسياسيّة اللاّحقة لأزمة وباء كورونا. 

وتأتي هذه النكسة وسط تراجع حاد للطلب على الخام في السوق العالمية، نتيجة التباعد الاجتماعي الذي فرضته جائحة أزمة كورونا الكونية، وعدم قدرة منصّات التخزين العملاقة على استيعاب فائض الإنتاج.

في هذا الإطار تنفرد "عربي21"، حصريا بمحاورة الدكتور ياسين بن إسماعيل، باحث أكاديمي ومدير فوق الرتبة بالبنك المركزي التونسي، لشرح وتحليل التداعيات الاقتصادية والمالية ما بعد كورونا، واقتراح الحلول الكفيلة الواجب اتباعها تونسيا وعربيا. 

س ـ مرحبا بروفيسور ابن إسماعيل، لو نبدأ حوارنا بالحدث الزلزال هذه الأيام والمتعلق بالانزلاق غير المسبوق لأسعار برميل النفط، وخاصّة تلك المتعلقة بعقود البيع الآجلة لشهر أيار (مايو) سنة 2020، فهل من تفسير؟


 ـ للإجابة على سؤالكم، يجدر بنا التذكير أوّلا أنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة كانت طلبت من العربية السعودية، في الأشهر الأولى لاندلاع أزمة كورونا وفي بداية إقرار الحجر الصحي الشامل والكامل ببعض الدول الموبوءة، مضاعفة حصّتها من إنتاج النّفط. الطلب بدا غريبا بعض الشيء خاصّة وأنّ معظم دول العالم وأساسا تلك المستهلكة للنفط وغير المنتجة له كانت تتجه نحو فرض الحجر الصحي الشامل أي تعطيل شبه كلّي لجهاز الإنتاج. وبالتالي كان مرتقبا أن يقلّ الطلب العام الآني على الصّناعات الاستخراجيّة النّفطيّة، خاصّة مع بدء تسجيل إنتاج ضخم وقياسي من الغاز الصخري الأمريكي والنفط الأحفوري. 

إذن نستخلص من هذا أنّ الطلب الأمريكي كان يضمر أمرين إثنين: الأمر الأوّل هو الخفض الأقصى لسعر برميل النفط، وها نحن نشهده بشكل درامي وغير مسبوق منذ سنة 1986، وذلك استباقا لانزلاق مرتقب لسعر صرف الدولار الأمريكي بعد انقشاع أزمة كورونا. 

أمّا الأمر الثاني فهو آليّة استباقيّة مستحدثة، دُبّرت بليل لتعويض النفط الخليجي بالغاز الصّخري الأمريكي، الذي تملك منه الولايات المتحدة احتياطيا استراتيجيا ضخما يخوّل لها إمكانية الاستغناء عن الصناعة النفطية.
 
كما أنّ النفط الأمريكي الخام Wti هو النفط الأقل جودة وسعرا على مستوى السوق، وأمام زيادة حصة السعودية غير المبررة، فعمدت الولايات المتحدة الأمريكية للتخلص من سلعتها المزجاة والبخسة لأجل إفراغ منصات تخزينها الضخمة لتعويضها بنفط بحر الشمال Brent، عالي الجودة على غرار نفط الخليج، وهي عملية مأمونة المخاطر باعتبارها محددة بالعقود الآجلة لفترة الحجر الصحي فحسب، ثم مضمونة بأدوات السوق المالية credit default swap CDS وفي المحصلة تعتبر عملية ازدواجية تربط بين مجال المتدفقات الحقيقية والمتدفقات المالية والنقدية وهي عملية مصنفة أعلى هرم الهندسة المالية تهدف أساسا في نفس الوقت للاستجابة للطلب العام الآجل، ثم المحافظة على استقرار سعر صرف الدولار الأمريكي. وذلك في عملية استباقية للحد من تداعيات ما بعد أزمة جائحة كورونا الكونية، والاستغلال الأمثل لسذاجة عملية زيادة حصة بعض البلدان النفطية.

س ـ إذا كانت هذه آلية استباقية أمريكية، فماذا عن أعضاء مجموعة الدول المصدّرة للنفط OPEC وعلى وجه الخصوص الدّول العربية التي يرتكز اقتصادها ودخلها على النفط؟


 ـ أنا أرى أنّ القرار السيادي لبلدان مجموعة OPEC يفرض عليها خفض إنتاجها النفطي في هذه الفترة بالذّات، وليس أقله إلى نصف حجم إنتاجها العادي قبل أزمة كورونا. وهذا ينطبق بالضرورة على الدول العربية المصدرة للنفط.

س ـ أتيت على ذكر انزلاق مرتقب للدولار الأمريكي، فهل أن ذلك سوف يحدث بسبب عنونة معظم المبادلات في الصناعات الاستخراجية بالدولار الأمريكي؟ أي كأنك تحيل على العلاقة الوثيقة بين سعر صرف الدولار الأمريكي وسعر برميل النفط..


 ـ إن زيادة الطّلب على المحروقات بعد أزمة كورونا، نتاج عودة جهاز الإنتاج، سيقابلها حجم عرض ضخم جرّاء تراكم مخزون الاحتياطي من ناحية ومواصلة البلدان التي ضاعفت حصّتها في الإنتاج. وهو ما سيؤثر آليا بالسلب على سعر صرف الدولار الأمريكي. وفي المحصّلة فإنّ اختلال قاعدة السوق بين العرض والطلب على النفط سوف يسبب انزلاقا في سعر صرف الدّولار الأمريكي.
 
س ـ لكن بماذا تفسر تواصل سعر صرف قوي للدولار الأمريكي، رغم شلل اقتصاديات نصف سكان المعمورة، نتيجة لما تمّ فرضه من حجر صحّي شامل وواسع أدّى بدوره إلى شلل شبه تام لجهاز الإنتاج؟


 ـ سؤال جيّد، فرُغم وجود الحجر الصحي الشامل، فإن الدّول، على وجه الخصوص الدّول الأوروبية والدّول غير المنتجة للنفط، بصدد استغلال هذا الانزلاق التاريخي لسعر البرميل وتكثيف طلباتها النفطيّة، بهدف تكثيف خيارات الشراء اللاحقة وهي تجتهد في تثبيت السّعر الحالي، وبرمجة تسلّم لاحق للسّلع. هذا هو ما ساهم في امتصاص العرض الإضافي. في نفس السياق، فإنّ ما يحصل من تكثيف لخيارات الشراء اللاحقة ونظرا لعنونة العقود النفطيّة بالدولار الأمريكي، هو ما يفسّر محافظة سعر صرف الدولار الأمريكي على استقراره ولو إلى حين.

س ـ تعتمد الاقتصاديات العربية الخليجية بالأساس على النفط، فما هي المبادرات الممكنة لاحتواء هذا التراجع في سعر البرميل؟


 ـ كما أسلفت الذكر في الأجوبة السابقة، فإنّ انخفاض سعر برميل النفط في أثناء الأزمة هو بالأساس عملية استباقية خبيثة لمزيد نهب ثروات العرب. وبالتالي فإنّ الاستمرار في التعنت في زيادة حصص الإنتاج النفطي رغم تعطل جهاز الإنتاج العام هو عملية انتحارية لاقتصاديات، يُمثل فيها وزن الصناعات الاستخراجيّة النفطية المصدر الأكبر لخلق الثروة، بمعنى الناتج المحلي الإجمالي لبلدانها pib.

س ـ ما مدى استفادة الحكومة التونسية من هذا الانزلاق غير المسبوق في أسعار النفط؟


 ـ على المستوى القريب، يتعيّن على الحكومة التونسيّة الحالية (حكومة إلياس الفخفاخ) القيام أكثر ما يمكن بتكثيف خيارات الشراء اللاحقة، وذلك من أجل خلق مخزون احتياطي إضافي يستجيب لحاجياتها طيلة المخطط 2019 ـ 2024، يعني أن عليها القيام بخيارات الشراء بأجل. ثم محاولة مراجعة جميع عقود الإنتاج النفطي والطاقي. مع تثبيت سعر المحروقات على المستهلك حتى موفى 2024. حتى تحقق تقليصا من عجز الرصيد الأوّلي لتراكم مديونية ميزانياتها اللاحقة بما يناهز الثلث من حجمها. 

التقليص في عجز الميزانيات اللاحقة سوف يقلّص بدوره حجم الدين الخارجي (العجز الأولي لخمس ميزانيات القادمة). ومعناها التخفيض في حجم الدين السيادي الخارجي إلى حدود الثلث إلى حدود 2024. وسوف نكسب من ذلك تثبيتا مستقرّا في سعر المحروقات، قد يسهم في تحقيق سلم اجتماعي، تبقى حكومة الفخفاخ في أمسّ الحاجة إليه في ظلّ ارتفاع معدّلات البطالة وارتفاع معدّلات التضخّم.

س ـ عود على بدء أزمة كورونا، هل من توصيف للأزمة الاقتصادية الرّاهنة وخصوصيّتها، مقارنة بالأزمة المالية لسنة 2008؟


 ـ لقد كانت أزمة 2008 أزمة ماليّة نقديّة نظاميّة (Systemic) وإراديّة (voluntary). إراديّة لأنّ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي هو من تعمّد، في بداية الألفية الثالثة التخفيض الفجئي في نسبة الفائدة المديرية بقرار سياسي سيادي. وحري بنا التذكير بأنّ الفائدة المديرية هي بوصلة الخيارات الاستثمارية المستقبليّة نحو القطاعات التي يجب الاستثمار فيها، بوصفها في تناسب معاكس مع حجم الإدّخار وهي بالتالي تترجم الخيارات التفاضلية الزمنية للفرد. والأزمة المالية هي نتاج سياسة الاحتياطي الفيديرالي سنة 2000.

في المقابل فإن أزمة كورونا هي أزمة نظامية بنيانية غير إراديّة فرضت التباعد الاجتماعي الشامل الذي شلّ جهاز الاقتصاد الحقيقي وبالتالي شلّ جهاز خلق الثروة. وهو ما يجعل منها أزمة غير مسبوقة. ولو أنّ أزمة 2008 بدأت أزمة مالية نقدية وانتهت إلى أزمة اقتصاديّة. الأزمة الرّاهنة، من حيث هي ضربت جهاز الإنتاج، هي أزمة شبيهة بأزمة 1929. كما أنّ شلل جهاز الإنتاج يؤدّي منطقيّا إلى عجز في تلبية العرض المعد للطلب العام اللاحق، سواء كان طلبا داخليا بمعنى ذاك المعد للاستهلاك أو خارجيّا بمعنى العرض المعد للتصدير.

س ـ اتضحت الصّورة، فقط وقد أتينا على مفهوم الاقتصاد الحقيقي وما يحويه من سوق المواد الاستخراجية وسوق المواد الاستهلاكية وسوق مواد التجهيز، فهل من تفصيل للفرق بين السوق الماليّة والنقديّة؟


 ـ في ما يتعلق بالمادّة المتبادلة فإن السوق النقديّة تختصّ بمبادلات النقد، بينما السوق المالية تختص بمبادلة الأوراق المالية من أسهم وسندات. أما في ما يتعلق بالمتدخّلين، فإن السوق النقدية مخصصة بصفة حصرية بالمصارف والبنوك، بينما السوق المالية هي حكر على الشركات خفية الاسم المدرجة بالبورصة دون غيرها من الشركات.
 
س ـ إلى أيّ حد يمكن لآليات السياسات النقدية (التسيير الكمي) التي تم اعتمادها سنة 2008 أن تنجح في امتصاص أزمة الاقتصاد الحقيقي الرّاهنة؟


 ـ من المعلوم أنه كلّما اقتربت نسبة الفائدة المديرية للبنك المركزي من الصفر، فذلك معناه أنّ حجم الادخار كبير. بمعنى أنه تجمعهما علاقة تناسب عكسي. وبما أنّ جهاز الإنتاج معطّل نتيجة الحجر الصحي الشامل المطبّق في أغلب الدّول الموبوءة، فإنّ الرأسمال المتداول (العمالة) محكوم عليه هو الآخر بالحجر. بالتالي فإنّ الإجراءات الاحترازيّة الماليّة التي تمّ تفعيلها لمجابهة أزمة الرهن العقاري الأمريكي، لن يكون لها أثر يذكر.

س ـ أيّ آليات بديلة ممكنة إذن لامتصاص هذه الأزمة غير الإراديّة؟


 ـ أمام عدم فاعليّة إجراءات التسيير الكمّي لمعالجة شلل قطاع إنتاج الثروة الشامل والواسع، فإنّه يتعيّن اتباع اقتصاد حرب. وهذا الأخير لا يُعالج إلاّ بقطاعين اثنين من داخل جهاز الإنتاج، هما القطاع الفلاحي (القطاع الأوّل) وقطاع الاتصالات (القطاع الرابع) وقطاع الإنتاج الدفاعي. وعليه أرى بضرورة تحويل وإعادة انتشار عمالة قطاعي الصّناعة (القطاع الثاني) والخدمات (القطاع الثالث) داخل القطاعين الأول والرابع.

س ـ ما هي التداعيات المباشرة للأزمة على جميع العملات والعملات القوية وبصفة خاصّة على الدولار الأمريكي؟


 ـ بحكم توقف جهاز الإنتاج فإنّ العرض الموجّه لمجابهة الطلب العام اللاحق سوف ينقص وربّما سوف ينمحي ويسبب اختلالا ومصدرا مباشرا للضغوطات التضخّمية اللاحقة. كلّ هذا الاختلال سوف ينعكس سلبا على سعر صرف العملات، التي ستشهد انزلاقات رهيبة، بما فيها الدولار الأمريكي، هذا فضلا عن الانخفاض الملحوظ في سعر برميل النّفط المعنون أساسا بالدولار الأمريكي. وستشهد الأسواق العالمية أزمة بنيانية نظامية كونية أشدّ وطأة من أزمة 2008.

س ـ بما أنّك تؤكّد على أنّ أزمة كورونا، التي تأججت نيرانها من مدينة "ووهان" الصّينيّة هي أزمة بنيانيّة غير إراديّة وغير مسبوقة، وبما أنّ الاقتصاد الصيني يرتكز على احتياطي ضخم من العملة الأجنبية المعنونة بالدولار الأمريكي، المُوظّف في أكبر البورصات العالمية، فهل نفهم من كلامكم أنّ الصين والولايات المتحدة الأمريكية متضرّرتان من تواصل أزمة كورونا؟ وهل يعني ذلك عدم متانة التفسير التآمري الذي يتهم كلا الدّولتين؟


 ـ أدوات التحليل الاقتصادي تقول إنّ الصين التي تمتلك اقتصادا مدعوما بالدولار الأمريكي، ليس من مصلحتها انخفاض قيمة مدخراتها الضخمة من الدولار الأمريكي. وبالتالي فالصين ليست لها مصلحة لا أن تكون سببا في اندلاع الأزمة ولا في استمرارها، رغم أنّ الأزمة انطلقت منها ولم تقف عندها.
  
في نفس الإطار فإنّ الانزلاق المرتقب للدولار الأمريكي لن يقابله زيادة في حجم المبادلات أي لا يقابله زيادة في حجم الدخل الأمريكي، خاصة أن المحروقات تمثل أكبر حجم في المبادلات الأمريكيّة، وبالتالي فإنّ انخفاض سعر صرف الدولار الأمريكي سيقلّص من مداخيل الولايات المتحدة. وبالتالي عدم متانة نظرية المؤامرة، وبالتالي يتوجب على قادة إدارة الشأن العام في جميع دول العالم الاتعاظ من أزمة كورونا وذلك بتشجيع البحث العلمي والإنصات إلى نصائح الخبراء ذوي الشأن وتخصيص الجانب الأكبر من ميزانياتها للاستثمار في البحوث الإستراتيجية التنموية. 

س ـ ما انفكّ البعض في تونس يدعو إلى ضرورة تغيير الأوراق النقدية بمجرّد انتهاء مرحلة الحجر الصحّي على أمل ضخّ السّيولة وتعبئة موارد مالية مهمّة. ما مدى نجاعة هذا المطلب؟


 ـ تمثّل ميزانية صكّ العملة الورقية البنكيّة التونسية ثُلث ميزانية نفقات البنك المركزي، والعملة الورقية في عصر العملة الرقمية وفي زمن نظم الدّفوعات الإلكترونية، يعتبر مقترحا رجعيّا متخلّفا. 

س ـ لكن أليس في هذا المقترح سحب للبساط من الاقتصاد الموازي؟


 ـ طرح البنك المركزي للعملة الورقية الوطنية يكون على أساس طلب القطاع المصرفي بالسحب من حسابات البنوك المفتوحة بدفاتر البنك المركزي، بمعنى أن طلب البنوك محدد بحاجيات حرفائه للنفقات اليومية، بمعنى أن حجم العملة الورقية المتداولة لا يتجاوز 10 بالمائة من كتلة النقد رقم واحد (العملة الورقية) ويمثل حجم كتلة العملة رقم واحد عُشر مجموع الأربع كتل نقدية.
 
وبالتالي فإنّ فكرة تغيير العملة الورقيّة لا يتجاوب معها إلا عشرة بالمائة من حجم معاملات الاقتصاد برمته. فالعملة الورقية تمثل عقدة الثقة فقط للعملة الوطنية. يعني هذا المطلب، وإن تحقق، أن دورة الكتلة النقدية سترجع للنقطة صفر، فقط بعد ستة أشهر. يعني أنّ فكرة تغيير العملة الورقية سوف تسبب توريدا إضافيا من الورق البنكي عالي الجودة، وبالتالي خسارة مضاعفة من العملة الصعبة.


س ـ ماهو البديل الذي تقترحه إذن؟

 
 ـ أرى أنّ الحل يكمن في بعث مصنع وطني لصكّ العملة بجهة القصرين، على غرار ما قام به المغرب الشقيق، منذ حكم الملك الحسن الثاني. هذا الإجراء لو يتم فإنه سوف يسهم في تشغيل يد عاملة بدل توريد مجاني للبطالة.

س ـ دعنا نفكّر في واقع اقتصادياتنا ما بعد أزمة كورونا، في ظل قولك بعجز آليات التسيير الكمي، التي تمّ اعتمادها أثناء أزمة 2008، في معالجة أزمة كورونا، إلى أي حد يمكن أن يمثل paypal وbitcoin وcryptomonnaie حلاّ في الاقتصاد المالي والنقدي؟


 ـ صك العملة أو ما يسمّى بـ droit de Seigneuriage هي من أوكد مهام البنوك المركزية، وهي لعمري القاعدة الأساسية التي تمثل غاية وجود البنك المركزي. وباعتبار أن هذا الأخير يراقب ويستشرف ما يسمّى بالهوية الاقتصادية، أي المعادلة بين التدفّقات الحقيقية والتدفقات المالية والنقدية، وباعتبار أن عالم الاقتصاد الفرنسي كونتيون يقول إنه "بصرف النظر عن الاقتصاد الحقيقي، فإنّ حجم كتلة النقد يؤثر مباشرة على تقلّب الأسعار"، بمعنى أن معرفة هذه المعادلة هي روح وجود السياسات الاحترازية الكلية للبنك المركزي، فإنّ صكّ أي عملة خارج هذه المعادلة، يعتبر إذنا بفناء وجود البنوك المركزية.

وبالتالي فإن هذا النوع من العملة لا يمكن له أن يرى الوجود إلا على أنقاض البنوك المركزية. وطالما أن البنوك المركزية هي امتداد للمالية العمومية، فإنه يصعب أن تتخلى الحكومات على مصدر نفوذها لصالح الخواص. وأنّ تسليم الحكومات بحل les bitcoins ، هو تسليم لرقابها لحكم العابرة للقارات المتوحّشة على حساب الدولة الوطنية.