قضايا وآراء

جمال حمدان وجغرافيا الحياة.. والموت أيضا!!

1300x600
مفارقة لا يستطيع المرء تجاهلها حين يكتشف أن الراحل الدكتور جمال حمدان كان من أوائل من طبقوا على أنفسهم العزل و"التباعد الاجتماعي"، حماية لنفسه من الانخراط في خواء حياة اجتماعية وعلمية بدأت تشكل "كورونا أخلاقية" تنتشر ويتسع انتشارها في المجتمع الذي يعيش فيه!.. وسط هذا الخواء يتوجب على من كان مثل جمال حمدان أن يبحث عن الحقيقة وأن يجدها، خاصة إذا كان لديه الموهبة والإدراك التام.. والأكثر، لديه فكرة واضحة تماما عن ما يتوجب عليه عمله.

كان رحمه الله بالفعل متقدما وسابقا في كل شيء رغم ما قد يبدو في هذه "اللمحة" من تحميل للمعنى بأكثر مما يحتمل، لكننا بالفعل لم نسمع عن العزل والتباعد الذي يعيشه كوكب الأرض الآن إلا من سيرة جمال حمدان، على الأقل في ثقافتنا العربية. لكن هذه العزلة الاختيارية التي فرضها الرجل على نفسه، أسفرت عن عطاء ممدود انطلق بالجغرافيا (تخصصه العلمي) من المعرفة إلى التفكير ومن الحقائق إلى الأفكار.. عطاء منح تلك الجغرافيا الصماء المرصوصة في المجلدات والخرائط "حياة كاملة"، من علم وفن وفلسفة ودين وتاريخ وسياسة واقتصاد وبشر واستراتيجيا وحرب وسلام.. هكذا يُجمع كل من اقترب من فهم ودراسة وتحليل واستنتاج ما كتبه وتركه لنا جمال حمدان.. الذي غادر دنيانا في مثل هذه الأيام (17 نيسان/ أبريل 1993).

مثله مثل كل المفكرين العباقرة، كانت له توقعاته الخطيرة والهامة التي تتعلق بوطنه وشعبه ودينه.. مبكرا جدا، توقع أن يظهر لمصر منافسون ومطالبون ومدعون "هيدرولوجيا".. فيقول: كانت مصر "سيدة النيل" بل مالكة النيل الوحيدة، الآن فقط انتهي هذا إلى الأبد، وأصبحت شريكة محسودة ومحاسبة، ورصيدها المائي محدود وثابت وغير قابل للزيادة، إن لم يكن للنقص، والمستقبل أسود!! كل هذا الكلام قيل من أكثر من ثلاثين عاما، ولم تكن قصة "سد النهضة" قد اكتملت فصولها على النحو الذي هي عليه الآن، لكن الرجل كان لديه تشوف بعيد لما لا يراه الآخرون الذين هم أصلا من أهل الاختصاص والمسؤولية.

أبدى خوفه المبكر من تراجع الزراعة التي تعني "الحياة" للبلاد، ليصيح صيحته المرعبة: من غير الزراعة ستتحول مصر "إلى مقبرة بحجم الدولة"؛ لأن مصر بيئة جغرافية مرهفة وهشة لا تحتمل العبث، وهي بعد بناء السد العالي لم تعد تتسع، بل أخذت في الانحسار، في الوقت الذي يزداد فيه سكانها بطريقة لم تحدث من قبل.. وهكذا بينما تشهد القاعدة الأرضية والمائية انكماشا أو ثباتا أو انقراضا وصلت الزيادة السكانية إلى مداها ولم تبق سوى "المجاعة". فعامل "السكان" تعدى عامل "الأرض"، وسيأتي اليوم الذي تطرد فيه الزراعة تماما من أرض مصر لتصبح كلها مكان سكن دون مكان عمل، أي دون زراعة أي دون حياة، أي موت.

يروي لنا شقيقه الدكتور عبد الحميد صالح أنه كان يزوره في مكتبه بقسم الجغرافيا في الخمسينيات، فقال له إنهم وزعوا عليه وعلى زملائه في الجامعة "استبيانا" يتضمن سؤالا عن الوظيفة القيادية التي يرغب في شغلها والتي يستطيع من خلالها خدمة وطنه، فكانت إجابته هو: وزير الشؤن البلدية والقروية. ويكمل أخوه: ولما أعربت له عن دهشتي لاختيار هذه الوزارة وبأن يكون وزيرا مرة واحدة، قال له: إن من يتولى هذه الوزارة يملك في يده نهضة مصر أو تخلفها.. وعدد له مزايا وفوائد هذه الوزارة ومهامها وأنها هي البنية الأساسية التي بدونها لا تستقيم حياة الناس في المدن، قائلا: الشؤون القروية هي العمود الفقري الذي بدونه ينقصم ظهر مصر.

والكلام صحيح بنسبة 100 في المئة.. نهضة مصر الحقيقية تبدأ من هنا، من الــ"1210 "وحدة محلية ومن الــ"4673" قرية التي تشكل (كما قال) علامة "جغرافيا الحياة": العمود الفقري للوطن.. وبدونه ينقصم ظهر مصر.

أبدى خوفا مبكرا أيضا (لاحظ أن كل هذا كان في زمن السادات ومبارك) من أن تتحول مصر لأول مرة من "تعبير جغرافي إلى تعبير تاريخي" بعد أن ضاقت أمامها الخيارات، ليس بين السيئ والأسوأ، وإنما بين الأسوأ والأكثر سوءا، وسيكون استمرارها في الحياة وقتها نوعا من "القصور الذاتي".

لم يسعد كثيرا بظاهرة "التدين الشكلي" أو "الهدى الظاهر" كما سماها أصحابها والتي سادت البلاد في السبعينيات، وكانت أبعد ما تكون عن جوهر مشروع النهضة التي تكونت حول "الفكرة الدينية" في أوائل القرن الماضي، واصفا التطرف بأنه "وباء" أصاب العالم الإسلامي وأنه نوع من "التشنج" بسبب العجز عن المقاومة. واتهم الغرب الاستعماري بأنه "أكثر من أراد توظيف التطرف سياسيا بهدف الهيمنة على العالم الإسلامي واستغلاله وتسخيره لأغراضه الإمبريالية العليا واستراتيجيته الكوكبية العدوانية".. وهي نفس الرؤية التي كان يراها فيلسوف العلوم السياسية في العصر الحديث، الراحل الدكتور حامد ربيع.

وكون حمدان في وقت مبكر قراءته النفسية والاجتماعية لفهم ظاهرة التيارات الدينية لكنه ذهب بها بعيدا بعض الشيء ووقع في"مطب" التعميم، فقال واصفا لهم ولدوافعها: "منطقهم بسيط وواضح، فلأنهم في قاع المجتمع، فليس لديهم ما يخسرونه، فإما أن يضعهم المجتمع في مكانة مقبولة، أو فيذهب الجميع إلى الجحيم تحت ستار الدين!!"..

الراحلة اليسارية أروى صالح ذكرت نفس الكلام في نقدها الشديد للتجربة اليسارية في السبعينيات، فقالت في كتابها الشهير"المبتسرون": "ليس هناك أخطر من البرجوازى الصغير المتعلم الخجول الشريف الاخلاقي حتى التطهر؛ والذي تزداد خطورته لو قرر أن يتدخل ليعدل مسار التاريخ..".

ويضيف لنا الراحل الكبير من نفس قصيدة الشعر أبياتا فيقول: "المسلمون الآن أصبحوا عبئا على الإسلام بعد أن كان الإسلام عونا للمسلمين". الملفت أنه اهتم بظاهرة العلاقة بين العلمانية والدين.. وكان لا يجد تناقضا بين الاثنين لأن كل الأديان علمانية، أي دنيوية، وهي الرؤية التي اكتسبت قوامها الكامل مع الراحل الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري في حديثه الفياض عن الفارق بين العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية..

ككل أبناء الأمة الأوفياء، كانت قضية فلسطين هي قضيته الأولى وشغلة الشاغل، وصرح بأن الكارثة التي تعرضت لها فلسطين على يد الصهيونية هي سابقة ليس لها مثيل قط في تاريخ العالم الحديث ولا العالم الإسلامي ولا العالم الثالث، وكان يرى أن الخطر لا يستهدف الأرض المقدسة في فلسطين فقط، وأن التهديد لا يقتصر على العالم العربي وحده وإنما يمتد إلى العالم الإسلامي كله. ويقول حول هذا المعنى مقولته الشهيرة بالغة الأهمية: بقيام إسرائيل عام 1948 م فقدت مصر ربع دورها التاريخي، بهزيمة 1967 م فقدت نصف وزنها، بكامب ديفيد فقدت وزنها جميعا، في كامب ديفيد ماتت فلسطين، وتم دفنها في مدريد وواشنطن.. في إشارة الى مؤتمر مدريد للسلام الذي عقد عام 1991م.

رحم الله جمال حمدان الذي ستظل كتاباته تُقرأ قراءة مرجعية بشغف وقوة، ليس فقط كعلم ومعرفة، ولكن كعلامات لعصر بأكمله شهد تداخلات معقدة بين الحلم والواقع.