إن أردت أن تتكلم وتحكي عن الانتهاكات وفظاعتها التي تتم تجاه المعتقلين وأسرهم في ظل حكم العسكر الانقلابي، فتأكد أنك بحاجة إلى أيام أو ربما شهور لتنتهي من سرد معاناتهم.
فالانتهاكات في
سجون مصر تخطت كل الفئات العمرية، فتجد الطفل والشباب وكبار السن والنساء. وتزاد معاناة المعتقلين، خاصة المرضى منهم، سوءا مع بدء فصل الشتاء، نتيجة الأجواء شديدة البرودة، حيث تنعدم كافة وسائل التدفئة التقليدية، ويرافق ذلك منع إدارة السجون الأهالي من إدخال الأغطية والملابس الشتوية لذويهم.
لا تتوقف المعاناة بحق المعتقلين عند الانتهاكات وصنوف التعذيب التي يتعرضون لها بالداخل، بل يمتد التعذيب لأسر هؤلاء المعتقلين أثناء الزيارة، لتؤكد أن وحشية الانقلاب وممارسته الانتقامية لا تقتصر فقط على الأبرياء من المعتقلين؛ وإنما تمتد لتشمل الأهل والأقارب، لا يستثنى من ذلك أطفال أو كبار سن، ولا رجال أو نساء، حيث تتعمد إدارة السجون إهانتهم وإذلالهم، والتعسف معهم في كافة الإجراءات.
ومعاناة أهالي المعتقلين عديدة، تبدأ بتدبير المال لشراء مستلزمات زيارة المعتقل من طعام وملابس وأدوية في حال مرضه، ومبلغ مالي يُترك في خزينة الأمانات بالسجن، فضلا عن نفقات الانتقال إلى مكان الاحتجاز الذي غالبا ما يكون بعيدا عن محل السكن.
وقد اضطرت أسر كثيرة لبيع ممتلكات خاصة توفيرا لسبل الإنفاق بعد غياب العائل في السجن، ولجوء البعض منها إلى الاقتراض.
وفضلا عن ذلك، يواجه أهالي المعتقلين كل أنواع التعنت خلال الزيارات، بدءا من قصر الزيارة على عدد قليل من الزوار من ضمن طوابير طويلة عادة بالمئات، ما يضطر الأهالي للمبيت أمام باب السجن لضمان أسبقية الترتيب.
ومنع دخول الطعام والملابس وبعض الأدوية التي تحضرها الأسر، إضافة إلى قِصر مدة الزيارة التي تكون في بعض السجون من خلف حائط زجاجي، ويتم التحدث عبر هواتف مراقبة أمنيا.
إن النظام الانقلابي يحاول عبر الإجراءات
القمعية كسر أهالي المعتقلين ماديا ومعنويا ليتخلوا ليس عن ذويهم فقط، بل عن خيار استكمال الثورة.
كل ذلك يحدث في ظل حالة من النفاق الدولي بالسكوت عما يجري في حق المعتقلين وأسرهم من انتهاكات.
بل ثمة نوعٌ من التسويغ والتبرير الحقوقي لهذه الجرائم من قبل جمعيات حقوق الإنسان داخل النظام، وكذلك المؤسسة الدينية في مصر.. حتى أصبحت السجون تكتب شهادات وفاة المعتقلين فيها يوميا!!
ومع هذا الوضع المظلم تلمح ابتسامة مشرقة مرتسمة على وجوه المعتقلين وكأنهم يقولون لنا: "على الرغم مما نحن فيه، إلا أننا ثابتون وصامدون لأننا ندرك أننا على الحق".
المتتبع لأحوال السجون المصرية في عهد
السيسي من بعد الانقلاب العسكري حتى اليوم، يجد تكرارا لسياسات القمع من العهد البائد، وقد أضافوا إليها ممارسات الاحتلال التي تركها لهم بعد تطويرها ماديا ونفسيا، فكل ما استطاعوا الخروج به من درس التاريخ أن تلك هي الطريقة الوحيدة لإدارة هذا الشعب..!!
إن التعذيب والانتهاكات بشكل عام تأتي نِتاج فساد البيئة السياسية والنظام العسكري الديكتاتوري، وغياب المجتمع المدني، وغياب الإعلام المحايد، والسيطرة من قبل النظام على الجهات والمنظمات الحقوقية، بل السيطرة على كافة مناحي الحياة من خلال عسكرتها!!
ولذلك فإن ما يحدث داخل سجون مصر يعكس بشكل واضح ما يجري خارجها منذ الانقلاب، حيث العودة إلى "دولة القمع الشامل" و"السياسة القمعية الشاملة"، والسيطرة على المجتمع بالخوف والذعر والرعب، وذلك لإنهاء أي حالة من حالات الشعور بالكرامة، ولتقزيم المجتمع وإنهاء فاعليته التي وصلت إلى أعلى درجاتها بعد ثورة يناير، ولتصفية القوى الحيَّة في المجتمع، ولإرغام السجناء السياسيين على الاستسلام، وإرسال رسالة تفيد بأن التغيير مستحيل، وأن أي شخص سيشارك في العمل المعارض للنظام أو يسعى للتغيير أو حتى يعبر عن رأيه بشكل عام، سيتعرض للاعتقال والانتهاكات.
ولكن المحصلة حتى الآن لا توحي بنجاح هذه السياسة القمعية لعدة أسباب منها:
1- التجارب القمعية السابقة التي كانت تمارس داخل المعتقلات لم تحدث بعد حالة ثورية شعر فيها الشعب المصري بطعم الحرية.. بل حدثت في ظل استقرار منظومة الحكم وحيازتها للشرعية في حس معظم المواطنين، مما أدى لشعور المعتقلين باليأس من إمكانية التغيير والرضى بأي مكتسبات ولو تمثلت في مجرد تحجيم الانتهاكات، ووقف تنفيذ أحكام الإعدام، والخروج من السجون مقابل تغيير الأفكار والتوجهات.
2- وُجدت شخصيات محنكة في العهود السابقة على رأس منظومة الحكم تجيد استخدام سياسة العصا والجزرة، بينما حاليا يقر السيسي نفسه بأنه شخص غير سياسي، وليس لديه سوى القمع وفقط.
3- الانسداد السياسي والفشل الاقتصادي غير المسبوق للنظام العسكري الحاكم، وفقدانه للشرعية في حس قطاعات متزايدة من الشعب، بالتوازي مع وجود حالة من التفكك والتخبط في سياسات النظامين الإقليمي والدولي.
العوامل المادية السابقة لم تترك فرصة لعاقل أن يأمل في جني أي مكتسبات من الاستسلام، كما أنها رغم قتامة المشهد تترك بصيصا من الأمل بأن الصراع لم ينته بعد، وأن هناك فرصا ما زالت سانحة للتغيير. أما المعايير الإيمانية والمتمثلة في البعد العقدي والثبات على الحق واليقين بهلاك الظالمين؛ فهي معايير أساسية، ولكن يتفاوت الناس في تحقيقها والقدرة على الالتزام بها.
وأخيرا.. بوسع أي نظام أن يبطش بالمعارضين، وذلك كي يُركّع المجتمع، لكن ذلك لن يمنحه الأمان، ولن يُسكت الناس على المدى المتوسط والطويل، فإن للشعوب كأسا ما يلبث أن يمتلئ ويفيض.
وهذا الطغيان الجنوني والهيمنة المُفرطة لنظام السيسي المجرم المتصهين، لا يكفي لمواجهتهما خطابٌ ناقد معارض، فلن يؤثر فيه هذا كثيرا، لا بد من الانتقال إلى مربع آخر أو خطة للتحرك أكثر فعالية تُدِير فيها القوى الحية في مصر معركتَها بطريقة أفضل، فما يحدث داخل المعتقلات وخارجها يُلقي بالأحمال على عاتق كل حر في هذه البلد أن ينتفض محاولا إيقاف هذا الجور والظلم مستلهما الصمود من ابتسامات المعتقلين.