كتاب عربي 21

الاستئصاليون إلى زوال سريع

1300x600
يقول كل تونسي عاقل لنفسه يجب أن أتفاءل، فأنا ابن بلد الربيع العربي الأول، وأنا الذي فتحت طريق الديمقراطية للعرب، ثم يفيق في الصباح على شبح ابن علي ومرحلته الكريهة يوجهان الفعل السياسي في تونس، فيصيبه الإحباط ويحد من طموحه.

وليس أدل على إرث ابن علي وتأثيره هذه الأيام في تونس من المفاوضات العسيرة لتشكيل الحكومة. إن ابن علي ونظامه (لا شخصه الذي بين يدي الله) هو الذي يكيف المماحكة السياسية ويوجه الفاعلين، ويملي شروطه على الحزب الفائز الذي لم ينج بدوره من ذلك الإرث البغيض.

ونفصل القول في وجوه هذا الإرث الدكتاتوري الذي لم يسمح لروح الربيع العربي بالانعتاق والفعل، والتقدم نحو الديمقراطية السياسية التامة والديمقراطية الاجتماعية المطلوبة شعبيا وثوريا.

تلبس تيار الحداثة بروح ابن علي الإجرامية

لم تعد روح بورقيبة ظاهرة في الفعل، ولكنها تعبر عن نفسها في حنين حزين إلى أب روحي منقذ يبعث من الغيب. لكن بورقيبة لا يعود، فتنتقل روح الحنين متسترة تحت لباس من حداثة إلى نظام ابن علي. حداثة ذات مضمون وحيد وفعل يتيم: أن الديمقراطية لا تكون مع الإسلاميين. أنكر اليسار وجود الإسلاميين ولم يقبل التعامل معه كمكّون وطني للمشهد السياسي، فعزل نفسه وسقط انتخابيا نتيجة خطابه وفعله المرفوض شعبيا. لكن موقفه مر إلى غيره من الأحزاب التي ولدت بعد الثورة وتعلن رفضها الإقصاء؛ لكنها تمارسه مدعية تزعم الحداثة والديمقراطية.

تصر هذه الحزيبات التي لم تبلغ مبلغ التأثير الفعال بقوتها، فاكتفت بخطابها دون حجمها في الشارع، ورفعت شعارات الديمقراطية في الظاهر، لكنها تستبطن نفس موقف اليسار وخطابه وإقصائيته، لذلك نراها تتذرع بكل ذريعة لكي لا يكون للإسلاميين دور أو مكانة في الفعل السياسي دون أي احترام لنتيجة الصندوق الانتخابي.

من هنا نفهم مطالبها المتناقضة، فهي مع المشاركة مع حزب النهضة لكن دون ترؤس حزب النهضة للحكومة ورفضها لتوليه وزارات السيادة. والحقيقة إنها تعلن ذلك دون مبرر مقنع، فهي تقول بفساد حزب النهضة وعدم أهليته للحكم، لكنها تريد مشاركته دون تمكينه من مواقع القرار الفعلي، بما يعري نواياها المكشوفة أصلا.. نعم لحزب النهضة، لكن دون سلطة فعلية على شيء. وقد كان هذا موقف ابن علي في 1990 قبل أن يكشر عن وجهه الدكتاتوري.

لا تقوى هذه الأحزاب (ونسمي هنا بالتخصيص حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب وحزب عبير موسي، وبقية أطياف يسارية تزعم الاعتدال وتدفع إلى الإقصاء بوساطة النقابة) على إعلان موقف إقصائي جذري وشجاع، على غرار حزب الوطد ومكونات الجبهة (بعضها لا زال ينادي بمحاكمة الإسلاميين بقانون الإرهاب لمجرد وجودهم القانوني الذي يشكل قاعدة لتفشي الإرهاب.. هكذا)؛ لأنها تقدّر أن ثمن الإقصاء داخل الديمقراطية لا قِبَل لها به، لذلك لا تريد كشف وجهها الحقيقي، بل تموهه بغلاف ديمقراطي، بينما واقع الحال أنها لا تطيق الإسلاميين ولا تطيق العمل معهم، بل وجه التسامح الوحيد لديها أن يكون الإسلاميون وسيلة نقل مريحة إلى السلطة بمنطق نجيب الشابي (الذي مات سياسيا نتيجة هذا الموقف بالذات): أعيروني جمهوركم لأكون رئيسا، أو أعيروني نوابكم لأبني حكومة. ولكن لا تكونوا رؤساء ولا وزراء سيادة، ويمكن أن أتفضل عليهم ببعض المناصب الصغيرة للتمويه لا للمشاركة الفعالة.

لم يقل هذا الكلام بصوت صريح أو بيانات تحاجج بها الأحزاب، لكننا نملك حق تأويل الكلام المبهم. فلا معنى لأن تستدعي هذه الأحزاب حديث التغول فقط عندما تكون النهضة حزبا أول معنيا بقسم كبير من السلطة، ويُنسى عندما تكون مكونات المشهد وريثة نظام ابن علي (حزب النداء) تحكم البلد بكل مفاصله، ويبنى عليه الكثير دون تبرير حجة من منطق سياسي يحترم الصندوق ونتيجته على الأرض.

لا معنى لاتهام حزب النهضة بالفساد بناء فقط على التوافق مع حزب النداء، دون قراءة شاملة تأخذ بعين الاعتبار نتيجة التوافق الذي قبلت به النهضة، فبلّغ تونس إلى انتخابات 2019 وقد دفعت فيه النهضة لحما حيّا لضمان المسار الانتقالي. إنها قراءة سياسية قاصرة ومزايدة، وعلى قاعدة تطهر سياسي إقصائي موروث. لقد ضمن حزب النهضة لهذه الأحزاب بيئة سياسية ديمقراطية كان حزب النداء ورئيسه يريد قطعها؛ بانقلاب واضح بواسطة النقابة واليسار الذي التقي حول وثيقة "قرطاج 2" في ربيع وصيف 2018. (علما أن كل حديث عن فساد النهضة لم يصل إلى القضاء من قبل القائلين به، فهو حتى اللحظة حديث إعلامي في بلاتوهات التلفزة).

الحقيقة أن هذا الموقف هو موقف اليسار الاستئصالي الذي لم يصل به إلى أي موقع أو مكان سوى ما استولي عليه قبل الثورة، لغياب الإسلاميين في السجون والمنافي، مثل سيطرته على النقابة التي عبث اليسار بقوانينها الداخلية وطرق الانتخاب داخل هياكلها، فلم يفسح لغيره فيها مكانا. والمفاوضون المتلددون الآن هم لسان نفس اليسار الذي يعرف أنه لا يملك الحجة على ما يقول، ولذلك يرفع الصوت في الإعلام ويدعي الثورية والنقاء السياسي.

الثورية المزيفة هي صيغة أخرى من الخطاب الاستئصالي

يقف كثيرون هذه الأيام على ربوة الشرف السياسي متطهرين من كل درن، ويقدمون أنفسهم للناس بصور ملائكة سياسيين لم يشاركوا في الفساد السياسي والمالي الذي تعرفه تونس، ويُلحون في نفس الوقت على ترذيل خصمهم السياسي الفائز بالانتخابات، مصورين إياه دون أدنى تنسيب؛ كدس قاذورات تراكمت عبر الزمن، وخاصة بالتحالف مع الباجي قائد السبسي الذي يصير في هذا القياس زعيم القذرين الفاسدين (شارك جميع هؤلاء الأطهار في السير في جنازة الباجي الذي ضمن الديمقراطية ومجدوا دوره وشخصه).

الثورية في تونس لباس يدعيه كثيرون وينزعونه عن بقية الفرقاء. والحقيقة أن هذا الادعاء مردود على مدعيه، فالذين يتهمون النهضة الآن بالسماح بعودة التجمعيين هم أنفسهم من خطب في اعتصام الرحيل الممول تجمعيا، والذي أفضى إلى قطع مسار التأسيس واستعادة اليسار والتجمع الحكم عبر الباجي (وحزب النداء).. ثم سكتوا عن ذلك وعن الثورية وعن خطاب الثورة خمس سنوات، ثم استعادوه فقط في وجه النهضة.. الصور موثقة والخطابات والموقف وحديث ذبح عشرين ألف نهضوي من أجل استعادة السلطة؛ ما يزال في يوتيوب. وهذا يُسقط كل ثورية مدعاة، ومن لم يشارك في اعتصام الرحيل (أو الرز بالفاكهة) لا يزال يرفع راية القذافي الخضراء المعادية لكل عمل ديمقراطي، ويقف بالروح والدم مع انقلاب مصر و جزار سوريا. وعليه، فإن الثورية ليست وساما يعلقه الدعي على صدره، فما زال للناس البسطاء ذاكرة تمحص بها الحقيقة من الادعاء.

تونس خرجت من معركة الاستئصال

ليس كل تونس طبعا، بل شعبها الذي صوت للرئيس غير الاستئصالي ولكل فكر غير استئصالي، فلا فرق هنا بين الدكتور المرزوقي وبين قيس سعيد، فكلاهها عاشا وتحركا خارج معركة الاستئصال. تونس غير الاستئصالية صوتت أيضا لنبيل القروي الذي أتاها بخطاب مباشر وبسيط ينفعها ولا يحشرها في معركة النخب. لذلك، فهي تنظر إلى معركة تشكيل الحكومة بقرف واشمئزاز.. إنها ليست معارك الخبز والعمل والتكسب المشروع.

الناس انصرفوا في الأعم الأغلب بعيدا عن كل هذا، وينتظرون حكومة تنجز شيئا يعود لهم بفائدة مباشرة. ومن مصلحة من يريد الحكم أن يصغي إلى هذا، لا إلى خطاب المزايدة بالثورية. ليس هنا مجال تعداد مثالب الثوريين وكشف عوراتهم، لكن الشعب يؤلف ذاكرة جديدة، ولها مراجع من تاريخ قريب رأى فيه الشعب هؤلاء الثوريون يقفون مع مكونات منظومة ابن علي في المحافل السياسية، ويروجون أن الديمقراطية لا تستقيم مع الإسلاميين بل بمحقهم بكل الوسائل.

الديمقراطية تتقدم وترتكب أخطاء الفعل، ولكنها تكبر فوق أخطاء الفكر الإجرامي الاستئصالي الذي مكن لابن علي من رقاب التونسيين ربع قرن واندثر. الذين أسقطوا ابن علي ليسوا استئصاليين، وإن خاب ظنهم في الجميع لكنهم يثابرون على بلد بلا استئصاليين، وسيكون لهم ما يريدون ولو بعد حين. الاستئصاليون إلى زوال، والديمقراطية تربح الميدان بخطى واثقة.