مما لا شك فيه، أن
المظاهرات العارمة التي عمت كل مدن
لبنان من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه لغربه، وضمت جميع الطوائف اللبنانية والأحزاب على اختلاف أطيافها وأيديولوجياتها، قد فاجأت الجميع وعلى الأخص أمراء الطوائف في لبنان، التي توزع غنائم وثروات البلاد فيما بينهم.
فمَن كان يتخيل أن يرى صور زعماء الطوائف تُداس بالأحذية، وترتفع حناجر رعاياهم وأنصارهم بالسباب ضدهم وتطالبهم كلهم جميعاً بالرحيل؟ "كِلّن يعنى كِلّن"، هذا الشعار اللبناني العبقري، الذي تردد في كل أنحاء لبنان، من طرابلس في الشمال معقل السنة، إلى صيدا في الجنوب مسقط رأس آل الحريرى ونائبته التي تمثلهم في البرلمان (بهية الحريرى)، والنبطية ذات الصبغة الشيعية، وكسروان معقل المسيحيين المارونيين، وبعبدا حيث مقر رئاسة الجمهورية والرمز الماروني في البلاد.. خرجت الجماهير لتقول "كِلّن برة برة"، لا فرق عندهم بين سعد الحريري ولا نبيه بري ولا نصر الله ، ولا اختلاف بين ميشال عون ولا سمير جعجع ولا جنبلاط، كلهم فاسدون، فلا قدسية لأحد منهم بعد اليوم. فلقد حطم المتظاهرون كل تابوهات آلهتهم الخاوية، ووقفوا عليها رافعين علم لبنان فقط..
لا جدال في أن المشهد الذي يحدث في لبنان مشهد مهيب وفريد، ومختلف تماماً عن سابقيه في كل الأحداث التي مر بها منذ أنشأته الدول الاستعمارية من رحم سوريا الكبرى وقسمت بلاد الشام إلى دول، فكان لبنان من نصيب فرنسا التي أسسته على أساس طائفي (18 طائفة دينية)، كي يبقى في صراعات داخلية وحروب أهلية أبدية، وتلعب فيه يد المخابرات العالمية، وتحاك ضده المؤامرات، وتُرسم من على أرضه خرائط المنطقة وتوزيع النفوذ الدولي والإقليمي، ليظل دوماً تحت سيطرة القوى الخارجية.
ولبنان بشكل عام محكوم بتوازنات مصالح خاصة للمسيطرين طائفياً وجغرافياً، لتنتهي في النهاية بالتسويات وبمعادلة لا غالب ولا مغلوب، بفضل وجود الراعي الرسمي لها، لهذا فإن الشأن اللبناني ليس شأناً داخلياً، بل هو ملعب إقليمي كبير للصراع بين القوى الدولية والإقليمية المعنية بالشرق الأوسط، وساحة مكشوفة تُقام حروب الآخرين فيها، فكل زعيم طائفة مرتبط بشكل ما بدولة أخرى ويعتبرها الغطاء الآمن لطائفته، أو الأدق لضمان زعامته للطائفة. وهنا يحضرني لقاء عقده الرئيس اللبناني الراحل "شارل الحلو" مع الصحفيين اللبنانيين، وبدأه بالترحيب بهم قائلاً: "أهلا بكم في بلدكم الثاني لبنان"!
ولهذا، فإن خروج الشعب مرة واحدة في لحظة قدر من قبضة
الطائفية وتحطيم أصنام الزعماء على النحو الذي حدث؛ زلزل الطغمة السياسية الفاسدة المتسترة وراء الطائفية، سلاحها الوحيد للتحكم والسيطرة والاستمرار، كما هز الدول المعنية بالشرق الأوسط ولخبط حساباتها..
خلعت الجماهير عباءة الطائفية والحزبية ولفت جسدها الجريح بالعلم اللبناني، لتحصل على حقها في ثروة بلادها المنهوبة من زعماء الطوائف، فخرجت تطالب بإسقاط النظام السياسي العفن، نظام الطوائف والمحاصصة.. تريد إسقاط العهد القديم، تريد إسقاط الحقبة الحريرية الفاسد. وهي انتفاضة لا تشبه ثورة الأرز في آذار/ مارس عام 2005، فلم يعد هناك 8 آذار و14 آذار، بل اتحد الفريقان في أهدافهما ومطالبهما، وأصبحا يمثلان عصب الثورة.
كما أنها أيضا ليست ثورة جياع حقاً، إنها تضم الفقراء والمعدومون، ولكن الغالبية العظمى من المتظاهرين، من أبناء الطبقة الوسطي أو بقاياها التي تهوي بسرعة فائقة إلى درك الفقر، ما جعلها انتفاضة مذهلة في شمولها واتساعها وقوتها؛ لأن هذه الطبقة تمثل العمود الفقري للمجتمعات في كل دول العالم، وهي الوحيدة القادرة على إحداث التغيير في المجتمعات لما يمتلكه أبناؤها من رصيد عال في الوعي، وهذا ما صدم التخمة الحاكمة..
لم يخرج الشعب من أجل الخبز والطحين، بل خرج لمحاسبة مَن يسرق خبزهم وطحينهم، منذ أكثر من ثلاثين عاماً تجرعوا فيها الفقر والحرمان بينما زعماء طوائفهم يتمتعون بالثراء ويتمرغون في الهناء والنعيم، ويطلبون منهم الصبر والعون لأن البلاد تمر بأزمة اقتصادية!
والحقيقة أن الأزمة الإقتصادية في لبنان ليست جديدة بل إنها بدأت منذ سنوات بعيدة، نتيجة تراكم الديون التي اقترضها رئيس الوزراء الراحل "رفيق الحريري" والتي بلغت 86.2 مليار دولار، حسب بيان صادر عن وزارة المالية اللبنانية. والدين مرشح لمزيد من الارتفاع. ويعتبر لبنان من أعلى الدول مديونية في العالم، بالإضافة للفساد المستشرى في البلاد منذ بداية تلك الفترة الحريرية التي أمتدت من الأب إلى الابن وسيطرة تلك الأسرة والمقربين منها على كل ثروات لبنان، والاستحواذ على كل المشروعات الاستثمارية في البلاد مما خلق طبقة طفيلية في البلاد، عُرفت بـ"الطبقة الحريرية"، وأصبحت عصابة تحكم لبنان، بينما المواطن اللبناني يعاني من شظف الحياة وضيق المعيشة، وتفرض عليه الضرائب الثقيلة، في الوقت التي تنشر فيه الصحف العالمية، وأبرزها "نيويورك تايمز"، منح "سعد الحريري" 16 مليون دولار لعارضة أزياء من جنوب أفريقيا كان على علاقة بها، تدعى "كانديس فان دير ميروي" تخصصت في عروض البكيني والملابس الداخلية!!
إن الحقبة "الحريرية" في لبنان، والتي عاش اللبنانيون في كنفها ما يقرب من الثلاثين عاماً، عندما تولى رجل الأعمال المقرب من السعودية "رفيق الحريري" رئاسة الحكومة عام 1992 بعد "اتفاق الطائف" الذي أنهى الحرب الأهلية في البلاد، لتبدأ حقبة سياسية جديدة في البلاد.. طوت هذه الحقبة الحقب القديمة بكل رموزها السياسية، وأغلقت بيوتا سياسية عريقة، نشأت منذ عهد الاستقلال، كبيت كرامي، والحص، وشهاب، وسلام، وشمعون، والخوري، وفرنجية، وإدة.. إلى آخره، حيث تأخذ زعامات الطوائف في لبنان بالوراثة.
والنظام اللبناني كما ذكرنا أنفاً تأسس على نظام المخاصصة بين الطوائف، وزاد من تكريسه "اتفاق الطائف"، وإن كان قد غيّر في موازين القوى بعض الشيء لصالح بعض الطوائف وزيادة الصلاحيات التي حصلوا عليها. فالرئيس وقائد الجيش ووزير الدفاع ورئيس البنك المركزي من الطائفة المارونية، ورئيس الوزراء من الطائفة السنية ورئيس مجلس النواب من الطائفة الشيعية. وحسب "اتفاق الطائف"، كان من المفترض أن يكون هناك مجلس الشيوخ يرأسه درزي، ولكن لم ينشأ حتى الآن. وتتوزع الحقائب الوزارية بين كل الطوائف، والتي كما ذكرنا، يبلغ عددها 18 طائفة دينية ويتمثل أعضاؤها في مجلس النواب.
هذا النظام الطائفى البغيض، الذي يستغله زعماء الطوائف لإثارة الحساسية والكراهية في نفوس اللبنانين. فبدلاً من أن يكون هذا التنوع الديني والثقافي والحضاري إثراءً للبنانيين، أصبح عبئا عليهم ومثيرا للكثير من المشاكل والأزمات التي يمر بها لبنان، وخاصة مع تغلب الطائفة الشيعية عن باقى الطوائف، لامتلاكها السلاح. فعلى الرغم من ادعاء حزب الله أن سلاحه موجها فقط ضد الكيان الصهيوني، إلا أنه في أحداث أيار/ مايو 2008 وجهه ضد اللبنانيين في بيروت، ما جعل من حزب الله دولة داخل الدولة اللبنانية، فهو الذي يُزكي الرئيس ليكون طيعاً في يده يوجهه بالريموت كنترول كيفما يريد، وهو الذي يسير أمور الدولة حيثما يشاء ويعطلها حينما يريد، بتمسكه بالثلث المعطل في الحكومة، فيمرر القوانين التي يريدها ويوقف القرارات التي لا تروق له أو يراها في غير مصلحته..
لذلك وقف "حزب الله" ضد هذه الانتفاضة التي تغير تلك المعادلة، وتنسف العهد الجديد، أى الإتفاق الثلاثى الذي تم بينه وبين عون والحريرى، والذي بموجبه تكونت السلطة الحالية، لذا خرج "حسن نصر الله" على شاشات التلفزة من مخبئه السري تحت الأرض، ليهدد اللبنانيين بالفراغ والفوضى والحرب الأهلية، ويعيد اللاءات الثلاثة، التي سبق وأن قالها من قبله "ميشال عون" و"سعد الحريري": لا لإسقاط العهد، لا لاستقالة الحكومة، لا لانتخابات برلمانية مبكرة.. اتحد الثلاثة وتوحدت كلماتهم ضد مطالب الشعب اللبناني، وإن كانوا قد جملوها بجرعة من الوهم بالإصلاح ومحاربة الفاسدين..
الفراغ الذي يهدد به نصر الله اللبنانيين، لم تعرفه لبنان قط حتى في خضم الحرب الأهلية في البلاد والتي استمرت 17 عاماً، فلم تتوقف المؤسسات ولا المصالح الحكومية ولا المصارف، ولم يُعطل مجلس النواب، بل ظلت الانتخابات تجري وسط الرصاص. ولم يكن قصر بعبدا شاغراً يوماً من غير رئيس، فلقد شغله الرؤساء "إلياس سركيس" ثم "بشير الجميل" الذي قتل بعد أيام من انتخابه، فخلفه أخوه "أمين الجميل"، وأعقبه "رينيه معوض" الذي اغتيل بعد 17 يوماً من انتخابه، ليذهب الكرسى بعد ذلك لرجل سوريا "إلياس الهواري"، لذلك استمرت رئاسته ولايتين كاملتين.
فقط في عهد "حسن نصر الله" ظل كرسي الرئاسة شاغراً لمدة عامين بعد انتهاء ولاية الرئيس "إميل لحود"، وعامين آخرين بعد انتهاء ولاية "ميشال سليمان"، حتى جاء بميشال عون ليكون دمية في يده.. فقط في عهد "نصر الله" أغلق البرلمان وعُطلت الانتخابات النيابية، وتم التمديد للبرلمان لمدة عامين..
لقد اتهم نصر الله "الحراك" (كما يسميه، فهو لا يراها انتفاضة حقيقية)، بأن وراءه جهات أجنبية واستخبارات دول وسفارات تمول تلك المظاهرات، لتصفى حساباتها مع السلطة الحالية وأن لها قيادة مستترة في الداخل تديرها ولا تظهر في العلن!
وهذا حقاً ما يدعو للسخرية، فالعالم كله يعلم أن "إيران" هى التي تمول الحزب وأنه أحد أذرعها في المنطقة والذى به قالت أنها تسيطر على أربعة عواصم عربية من بينهم (لبنان) و"نصر الله" أيضا كان قد سبق له وان إعترف بفضل إيران على الحزب ومساعدتها له مالياً وعسكرياً، وقال عنه إنه مال نظيف، فهل مال (الولي الفقيه) حلال وأموال الجهات الأجنبية الأخرى حرام، أليست إيران جهات أجنبية أيضا؟! منتهى البجاحة والفجور..
كما أنه دعى الجيش إلى فتح الطرقات ودعى أنصار وجمهور المقاومة أن يخرجوا من الساحات، ونسي أو تناسى أنه شل البلد وعطل مصالح البلاد والعباد عاماً كاملاً في الاعتصام أمام مجلس الوزراء إبان عهد "فؤاد السنيورة" عام 2007..
إن كلام " نصر الله" لا يختلف عن كلام كل الطواغيت العرب الذين قامت ثورات الربيع العربى ضدهم، فما أن يخرج الشعب إلى الشارع بعد أن فاض به الكيل، وضاقت الصدور بما تحمله من ظلم وقهر وفقر، مطالباً بأبسط حقوقه في الحياة، ألا وهي الحرية والعدالة والكرامة، يُتهم على الفور بالخيانة وأن هناك مؤامرة خارجية على البلاد ويريدون إسقاط الدولة، إنه فكر الطغاة المستبدين، لذلك ردت عليه الجماهير " نصر الله واحد منهم"..
لم يكن موقف أمين عام حزب الله غريباً ولا مستبعداً على مَن أرسل مليشياته العسكرية إلى سوريا لتقتل الثوار السوريين، وتحرق الأخضر واليابس في البلاد ليئد الثورة السورية في مهدها، إنه نصير الطغاة والظالمين، وليس المظلومين والمستضعفين في الأرض كما يدّعي..
وها هو يحاول بعد ثلاثة عشر يوماً من الانتفاضة السلمية أن ينفذ تهديده ويدفع البلاد إلى الفتنة، فيبعث بعناصر من حزبه وحزب أمل ليهاجموا المعتصمين ويحرقوا خيامهم، في مشهد يعيدنا لما حدث في 7 أيار/ مايو الدامي، مما اضطر سعد الحريرى لتقديم استقالته لدرء الفتنة في مهدها، ما وضعه في مأزق بعد سقوط الحكومة ونجاح الانتفاضة في تحقيق أحد مطالبها. ولا نعرف ما هي خطوته القادمة، وإن كنا نستطيع التكهن بأنه سيعرقل تشكيل حكومة جديدة من التكنوقراط، وأنه سيسعى إلى إحداث الفراغ الذي هدد به، وأنه سيكرر محاولاته لإحداث الفتنة، ولكنني أثق في وعي اللبنانيين الذي سيحميهم من الوقوع في هذا المستنقع القذر..
لا نستطيع أن نفصل الثورة اللبنانية عن محيط الثورات العربية التي شهدتها وتشهدها البلدان العربية، فنحن أمة واحدة وشعب واحد فرقه وفصله الاستعمار بالأسلاك الشائكة ليصنع دولاً ودويلات. لذلك أوجاعنا واحدة ومعاناتنا مشتركة من حكامنا المستبدين الفاسدين، منذ ما سُمى بعهد الاستقلال، تلك الأكذوبة الكبرى التي خدعوا بها الشعوب. فلقد استبدل المحتل الأجنبى بوكيل له من نفس الشعب في البلدان العربية ليحكم باسمه، ولكنه أخفق في إقامة دولة حقيقية تقوم على أسس المواطنة والمساومة في الحقوق والواجبات بين الحاكم والمحكوم. ومن هنا كان الصراع بين الشعوب المقهورة المغبون حقهم، والحكام الظالمين، المغتصبين لحقوق الشعوب.
ولذلك سيظل الصراع قائماً بين الجانبين، وستستمر الثورات ضده هؤلاء الحكام، موجة تلاحق أخرى، في سلسلة نضاله الطويل منذ الاحتلال الأجنبي، ولن تتوقف إلى أن تحصل الشعوب على حقها في إقامة دولة حقيقية، دولة عادلة، يحكمها القانون وليس العائلات والعصابات..
لبنان في تحول تاريخي، ولن يعود كما كان..