قضايا وآراء

جريمة قتل في "المطرانية"

1300x600

مع الاعتذار لشاعر الإنجليزية الكبير توماس اليوت (1888-1965م) في استعارة عنوان مسرحيته الشهيرة "جريمة قتل في الكاتدرائية"، التي كتبها في الوقت الحرج بين الحرب العالمية الأولى والثانية سنة 1935، وترجمها الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور (1931-1981م) في الستينيات، ونشرتها سلسلة المسرح العالمي الكويتية (العدد 148) عام 1982.. ورغم الفارق الشاسع بين جريمة قتل الأسقف توماس بيكيت في كاتدرائية كانتربرى عام 1170 وقتل القمص مقار سعد مقار في مطرانية شبرا الخيمة عام 2019 (13 أيار/ مايو)، فالأول قتله ملك إنجلترا الملك هنري الثاني (1133-1189م)، والثاني قتله الخادم كمال شوقي.. لكن التشابه ممكن، فالقاتل والمقتول في الحادثتين كانا أصدقاء قبل القتل، والأهم أن المناخ الذي حدثت فيه الجريمة كان مناخا قاسيا في العلاقة الداخلية الطويلة والملتوية بين الأطراف المعنية. لكن التاريخ يكرر أحداثه بشكل أو بآخر كما قال إليوت (لا نعرف الكثير عن المستقبل/ باستثناء أنه من جيل إلى آخر/ يكرر التاريخ أحداثه/ ولا يتعلم الناس من تجارب الآخرين).

الحاصل، أن جريمة القتل التي حدثت في كنيسة مارمرقس التابعة لمطرانية شبرا الخيمة هى جريمة القتل الثانية داخل الكنائس والأديرة المسيحية في مصر وفي أقل من عام! ففي 29 تموز/ يوليو 2018، قتل راهبان بدير أبومقار بوادي النطرون؛ الأنبا ابيفانيوس (التلميذ النجيب للاب متى المسكين). وما أعطى الموضوع بُعدا أكثر دموية وريبة، أن الراهبين حاولا الانتحار بعد ارتكاب الجريمة وقبل إعدامهما في نيسان/ أبريل الماضي.

 

جريمة القتل التي حدثت في كنيسة مارمرقس التابعة لمطرانية شبرا الخيمة هى جريمة القتل الثانية داخل الكنائس والأديرة المسيحية في مصر وفي أقل من عام

غبطة البابا تواضروس كثيرا ما يشكو من تعرض الكنائس لهجمات إرهابية لكونها دور عبادة مسيحية. وكانت آخر شكوى له منذ أيام قليلة أثناء حوار له مع الإعلام الغربي؛ الذي يأخذ تصريحات غبطة البابا ويعطيها أبعادا عديدة، ويتم توظيفها بشكل خاطئ ضد الوطن. فالبابا أولا يعلم أن الاعتداء على الكنائس ودور العبادة ليس في وارد أولويات الجماعات المتشددة. والمسألة قد تكون لها تفسيرات أخرى، وحوادث القتل واستخدام السلاح الناري المتكررة داخل المنشأت المسيحية وضعتنا جميعا أمام واقع مخيف. والبابا ثانيا؛ يعلم أن الحديث مع وسائل الإعلام الغربية يجب أن يكون بعيدا عن إطلاق الاتهامات وتوزيعها هنا وهناك. وفي الأصل، ليست هناك مشكلة قبطية، ولطالما قال كبار الأقباط إن أقباط مصر أسعد أقلية، مع رفض توصيف أقلية من الأساس.

كثرا ما قلت من قبل إن الشأن القبطي شأن وطني عام؛ لا يخص المسيحيين فقط، بل يخص كل المصريين. واعتزاز المصريين بالكنائس والأديرة في مصر معروف وقديم منذ زمن طويل؛ لأنه من جانب هو دليل تاريخي وعملي على عظمة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين، ومن جانب آخر؛ دليل على أخلاق التسامح والنبل لدى المصريين. لكن البابا الراحل شنودة الثالث (1923-2012م) كان يعتبر الشأن القبطي شأنا شخصيا بحتا؛ يتعلق بكرامته وزعامته وسيطرته على الكنيسة، وكان حريصا كل الحرص على أن "يؤمم" الشأن القبطى، ويكون هو شخصيا الباب الوحيد للولوج الي الكنيسة وشؤونها أو محاولة الاقتراب منها.

 

الشأن القبطي شأن وطني عام؛ لا يخص المسيحيين فقط، بل يخص كل المصريين. واعتزاز المصريين بالكنائس والأديرة في مصر معروف وقديم منذ زمن طويل

لكن ما تركه البابا السابق كان ضخما وثقيلا. وعلينا أن نتذكر هنا أن البعض فسر جريمة قتل الأنبا ابيفانيوس على أنها حاله من حالات استعار الخلاف القديم/ الجديد بين تيار البابا شنودة وتيار الأب متّى المسكين، وهو خلاف كبير وعنيف. ويحدثنا الأستاذ كمال غبريال في كتابه "الأقباط والليبرالية"؛ بأن غبطه البابا شنودة كان يتدخل برهبانه في حياة القرى المحيطة بديره (دير السريان) وقت أن كان راهبا تحت اسم أنطونيوس السريانى، مستخدما العنف بطريقة مفرطة وعنصرية، وكأنه قائد كتيبة مقاتلة، وليس قائد نساك ماتوا عن العالم، مما حدا ببعض مؤرخي الرهبنة الأجانب لأن يرفضوا إدراجه فى عداد آباء الرهبنة القديسين. وكانت هناك خصومة لدودة عنيفة من جانب الراهب انطونيوس السرياني (البابا شنودة فيما بعد) تجاه الراهب متّى المسكين، والتي وصلت إلى حد الاتهام بتسميم المياه التي يشرب منها الراهب متى المسكين هو ورهبانه.

مطرانية شبرا الخيمة أصدرت بيانا سريعا تعليقا على حادثة قتل القمص في كنيسة مار مرقس، حيث قالت: "مقتل القمص مقار سعد مقار، كاهن كنيسة مارمرقس الرسول بشبرا الخيمة. القمص مقار تعرض لإطلاق نار من أحد العاملين بالكنيسة ما أدى إلى مصرعه فور إطلاق النيران عليه. أبلغنا الجهات الأمنية والنيابة العامة، والواقعة محل تحقيق حاليا. الحادث جنائي، كما نؤكد عدم المسؤولية عما ينشر على صفحات التواصل الاجتماعي، ولا يُعتد بأي أخبار أخرى إلا عن طريق الصفحة الرسمية للمطرانية".

الأسباب المعلنة لتفسير جريمة القتل كانت هشة للغاية، وهي ما أثار حفيظة الكثير من الأقباط. فقد أُعلن ان السبب هو رفض القمص مساعدة القاتل في تجهيز بناته للزواج!! وواضح طبعا أن المسألة ليست كذلك، إذ من أين للخادم بالطبنجة (وكان معروفا بحسن سمعته وأخلاقه) التي ارتكب بها الجريمة؟ وكيف دخل بها الكنيسة؟ أم هل كانت داخل الكنيسة في مكان ما مع أسلحة أخرى؟ ومن أين للخادم هذه الدقة في الإصابة إن لم يكن مدربا تدريبا جيدا (أربع رصاصات في الرأس!)؟ وإذا كانت هناك خلافات بين الخادم والقمص، فلِمَ لمْ يتدخل زملاء القمص الأربعة (القمص بولس عبد الشهيد والقس منسى عزيز والقس أنيانوس صليب والقس موريس حمدي) ويمنعوا تصاعد المسألة الى القتل؟ البابا تواضروس قال لمحطة تلفزيون ألمانية: مقتل القمص مقار سعد حادث جنائى وجريمة "ومش عايزين نوسع الأمر، وطلبت من الأنبا مرقس، مطران شبرا الخيمة، إجراء تحقيق داخلى حول الجريمة ورفع تقرير بنتائج التحقيق. إضافة الى ذلك، هناك التحقيقات التي تجريها أجهزة الأمن والنيابة العامة".

 

الأسباب المعلنة لتفسير جريمة القتل كانت هشة للغاية، وهي ما أثار حفيظة الكثير من الأقباط

هناك أيضا كيان داخل الكنيسة يعرف بـ"كشافة الكنيسة"، وهو يقوم بحماية الكنائس مع أجهزة الأمن، فهل هم مسلحون؟ أم يقومون بحماية الكنائس بأجسادهم المجردة؟ وإذا كانوا مسلحين، فما مستوى تسليحهم؟

الاحتقان والغليان داخل الكنائس والأديرة يبعث على القلق والخوف الحقيقي على الوطن كله.. وما نطلبه حول ذلك ليس كثيرا، فقط نطلب العلن والشفافية.

واختم بكلمات معبرة لإليوت: "هذا هو مكان الوحدة/ حيث تعبر الأحلام بين الصخور الزرق/ هذا هو زمن التوتر بين الموت والولادة/ هنا الصمت لا يكفي أولئك الذين يسيرون آناء النهار وآناء الليل/ الزمن الصحيح غائب/ والمكان الصحيح غائب".