ليست هذه هي المرة الأولى التي يثار فيها الصراع حول لغة التدريس
بالمغرب، فقد شكلت هذه النقطة محور توتر سياسي تاريخي بين الحركة الوطنية وبين
«القوة الثالثة» التي تخدم المصالح الفرنسية في المغرب منذ أول حكومة في تاريخ
المغرب (حكومة مبارك البكاي).
وعلى
الرغم من النجاح المتأخر للحركة الوطنية في تنزيل أحد أهم المنطلقات الاستراتيجية
التي بنت عليها رؤيتها لإصلاح التعليم (التعريب)، إلا أنها لم تنجح في استكمال
حلقاته ومد مساره إلى التعليم الجامعي، مما جعل سياسة التعريب تتحمل الإعاقات
التربوية واللغوية التي كان يواجهها الطالب الجامعي الذي يفرض عليه متابعة دراسته
باللغة الفرنسية، فنمت لدى «القوة الثالثة» حجة جديدة في استعادة المبادرة، فأصبحت
تحمل سياسة التعريب المسؤولية الكاملة عن أعطاب منظومة التربية والتكوين والبحث
العلمي بالمغرب، ليستعيد الجدل مكانه من جديد، ويأخذ مستويات أخرى، بعد أن دخلت
حجج أخرى إلى مجال الصراع السياسي، وبالأخص حجتين اثنتين:
الحجة
الأولى، ترى أن أحد أعطاب المنظومة هو ضعف نسبة التحكم في اللغات، وأنه لا يمكن
تصور معاجلة هذا الاختلال وتقوية نسب التحكم في اللغات الأجنبية دون تدريس المواد
العلمية بها، وأن الانفتاح يتطلب المضي في هذا المسار.
الحجة
الثانية، ترى أن الجامعة المغربية أصبحت تخرج العاطلين الذين تخرجوا في تخصصات لا
علاقة لها بسوق الشغل، وأن هذه السوق تتطلب كفاءات بتخصصات أخرى وبمستويات عالية
من التحكم في اللغات الأجنبية، وأن الحاجة تدعو ليس فقط إلى تدريس المواد العلمية
باللغة الفرنسية، وإنما تدعو من باب أولى إلى مراجعة البنية البيداغوجية للتعليم
الجامعي، والقطع مع شعب الآداب والعلوم الإنسانية، وبالأخص شعب الدراسات
الإسلامية، أو على الأقل التقليص من توسعها وامتداداتها.
غير
أن الصراع هذه المرة، لم يأخذ بعدا شعبيا، وإنما تم تدبيره في إطار مؤسسي، ضمن
فضاء المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، إذ عرفت اتجاهات هذا الصراع
منحنيات مختلفة، ففيما حاول البعض تثبيت المرتكزات الدستورية وتثمينها بالتأكيد
على ترجمة الثوابت الدستورية بإقرار اللغة العربية لغة التدريس المعتمدة، استثمر
البعض الحجج السابقة مستعينا بواقع التعليم ومحدودية نتائجه، لمحاكمة مسار
التعريب، والدعوة إلى مراجعته، ليفتح الطريق أمام صراع من نوع آخر، يعتمد حجة
المعيار العلمي والبحثي في اعتماد اللغة الأجنبية التي يمكن أن يحصل بها الانفتاح
والارتباط الوثيق بسوق الشغل لاسيما وأن اللغة الفرنسية تواجه وضعية صعبة في
علاقتها بالبحث العلمي وأيضا بعالم المال والأعمال.
التركيب
التي تم به تدبير الصراع داخل هذا الفضاء المؤسسي انتهى إلى صيغة توافقية، يتم من
خلالها تثبيت الوضع الدستوري للغة العربية واعتبارها لغة التدريس، مع اعتماد مبدأ
التناوب اللغوي، وتقييد مضمونه بجملة ضوابط في موضوعات التدريس المشمولة بقضية
التناوب، ومستوياته ومدياته الزمنية، مع إطلاق لفظ العموم على اللغات الأجنبية حتى
لا يتم حصرها فقط في اللغة الفرنسية.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يثار فيها الصراع حول لغة التدريس
بالمغرب، فقد شكلت هذه النقطة محور توتر سياسي تاريخي بين الحركة الوطنية وبين
«القوة الثالثة» التي تخدم المصالح الفرنسية في المغرب منذ أول حكومة في تاريخ
المغرب
والحقيقة
أن هذه الصيغة طوقت نسبيا الصراع، وجعلته حبيس النقاش المؤسساتي، وكان من الممكن
أن يستمر هذا التأطير المؤسساتي، حتى ومشروع القانون الإطار يدخل حيز النقاش
التشريعي داخل قبة البرلمان، لكن الوضع لم يسر بهذا الشكل، بعد أن وقع تغيير غير
مفهوم في صيغة مشروع القانون الإطار بين مؤسستي رئاسة الحكومة ومؤسسة المجلس الوزاري،
إذ بدل أن يقتصر التناوب اللغوي على تدريس بعض المضامين في بعض المواد العلمية،
انتقلت الصيغة إلى «تدريس المواد باللغة الأجنبية لاسيما المواد العلمية»، ليتفجر
الصراع مرة أخرى، لكن ضمن فضاء مؤسسي آخر هو البرلمان ولجانه..
انتقل
مسار القضية إلى محاولة بحث عن توافق آخر، يبذل فيه حزب العدالة والتنمية جهدا في
التحول لجهة الصيغة التي تم تحريفها.
والحقيقة
أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها تدبير مثل هذا التوتر بتصدير الأزمة إلى حزب
العدالة والتنمية والاشتغال على تعميق توتراته الداخلية، لكن هذه المرة، لم يكن
الأمر شبيها بلحظة قبول سعد الدين العثماني بالشروط التحالفية (لتشكيل حكومته) بعد
رفض الحزب لها وإعلانه أكثر من مرة عن محدداته التفاوضية التي تنضبط لقاعدة
التعبير عن الإرادة الشعبية، فقد بعثرت إطلالة بنكيران الإعلامية عبر الفيسبوك كل
الأوراق، سواء أوراق قيادة حزبه التي يبدو أنها كانت ماضية في إقرار التوافق
الجديد، أو أوراق دعاة الفرنسة الذين كانوا ينتظرون إعلان الحفل البهيج بإقبار
مسار التعريب على يد حكومة العدالة والتنمية.
ليس
القصد في هذا المقال التوقف على مضامين كلمة رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران
ولا حتى قياس نسبة تأثيره على حزبه، وربما حتى على القرار السياسي، لكن ما يهمنا
بشكل أساسي هو تتبع ديناميات الصراع، وتحولاته، فمنذ إطلالته الإعلامية التي
استقطبت ملايين المشاهدين، دخل الموضوع إلى مربع الغموض، وتأجلت بشكل غير مفهوم
الديناميات البرلمانية لحسمه.
الخصوم
السياسيون للعدالة والتنمية يحاولون رمي الكرة على هذا الحزب وتحميله مسؤولية
تعطيل التوافق، لكن الديناميات السريعة التي أطلقت بتزامن مع التوتر وبعده، تشير
إلى أن الطابع الانتخابي والسياسي لم يكن بعيدا عن إدارة هذا الموضوع، وأن ترتيبات
عديدة كان يجري الاشتغال عليها لاستثمار لحظة انقلاب العدالة والتنمية على ثوابته.
خلافات
الأغلبية التي تعمقت بالحراك والدينامية التي ينتجها «الأحرار» الذي يتصرف بمنطق
حليف غير مكترث بواجب التضامن الحكومي، فينتج خطاب حزب معارض للحكومة، ومبشر
ببركات رئاسته للحكومة المرتقب في 2021، ودينامية الاتحاد الاشتراكي، الذي أصبح
ينوب عن الأحزاب المناهضة للتحول الديمقراطي، فيطالب بتعديل الفصل 47 وإقرار صيغة
تمأسس لـ»البلوكاج الحكومي» التي تم إنتاجه بعد تعيين عبد الإله بنكيران رئيسا
للحكومة بعد انتخابات 2016، إذ دعا إلى إقرار مقتضى دستوري في هذا الفصل يسمح
بتعيين رئيس الحكومة من تحالف مكون من بعض الأحزاب التي يفوق مقاعدها مقاعد الحزب
الفائز في حالة عجزه عن تشكيل الحكومة متجاوزا بذلك مطلبه القديم بضرورة احترام
«المنهجية الديمقراطية».
واضح
من خلال هذه الديناميات المتزامنة مع الصراع اللغوي أو التي أعقبته، أن موضوع لغة
التدريس، ليس ببعيد عن هذه المعركة، وأن الاستراتيجيات السياسية الجارية لا تزال
تراهن على الأطروحات القديمة التي تعتبر أن استهداف لغة التدريس الأم، وإضعاف
اللغة العربية، والتمكين للغة الفرنكفونية، يمثل القاعدة الاستراتيجية، ليس فقط
لإضعاف القاعدة الشعبية للإسلاميين وحسم المعركة الانتخابية والسياسية ضدهم، بل
والتمكين للنخب الخادمة للمصالح الأجنبية.
عن صحيفة القدس العربي