منذ عدة أيام صدرت
مبادرة لجماعة الإخوان المسلمين بخصوص الأوضاع في
مصر، وبمناسبة ذكرى 25 يناير الثامنة. وتناولت المبادرة عدة جوانب، بعضها تقليدي وشملتها كل أو معظم المبادرات السابقة وبعضها كان جديدا من خلال إدخال بعض الفئات بشكل محدد (مثل القضاة) في تكوين الهيئة المراد تشكيلها. والجديد في هذه المبادرة أنها تحدثت في المقدمة عن ثورة 1919، وذكّرت بتوحد القوى في مصر وقتها، وكذلك عن دستور 23. أما المطالب فلم يكن فيها أي جديد، وهي نفس المطالب التي طالبت بها كل المبادرات السابقة، سواء الصادرة عن
الإخوان أو عن قوى سياسية أخرى.
الملاحظ أن المطالب الأربعة الأولى في المبادرة بدأت بلفظ "تحرير"، بمعني أننا نطالب بالحرية وفي تقديري (وقد ذكرت سابقا) أن الشعب المصري الذي خرج في 25 يناير 2011 لو كان قد طالب بالحرية قبل العيش لكانت الأوضاع قد اختلفت، ولكنه طالب بالعيش قبل الحرية، وبالتالي عندما جاءه من يقول له "أنت نور عيني" سار خلفه وخُدع فيه. ولكن البيان عاد مرة أخرى للمطالبة بالعيش قبل الحرية في السطر الأخير للمطالب. أما بخصوص الإجراءات كما ذكرت، فقد نادت بتكوين هيئة أو كيان مصري واحد للمعارضة كباقي المبادرات السابقة، ويمثَل فيه الجميع بنسب متساوية، وأن يضاف إليه بعض القضاة.
وكنت في المقال السابق ذكرت أنه بمناسبة ذكرى 25 يناير الثامنة، سنجد من يدعو لمجلس ثوري جديد أو جمعية وطنية أخرى. وكنت قد أرسلت المقال للنشر قبل أن تصدر مبادرة الإخوان، ولكن طلب الإخوة في الجريدة بعض التعديلات فلم تنشر المقال إلا بعد صدور المبادرة. ما أقصده أن إصدار مبادرة بخصوص الأوضاع في مصر ليس جديدا وهو شيء متوقع، ونحن بعد مرور أكثر من خمس سنوات على الانقلاب صدر أكثر من عشر مبادرات، سواء من داخل مصر أو خارجها، أولها الخاصة بتكوين تحالف دعم الشرعية، وحتى مبادرة السفير معصوم مرزوق ومبادرة رفقاء
الثورة التي أعلنها الإخوان أخيرا، مرورا بائتلاف المصريين في الخارج وبيان القاهرة وبيان بروكسل، ثم المجلس الثوري وما سميت بمبادرة أمريكا في نهاية 2016، ومبادرة يناير يجمعنا، والخروج من النفق المظلم والجمعية الوطنية وغيرها.. وغيرها. وتقريبا المبادرات متشابهة في مطالبها وإجراءاتها وخطوات تنفيذها، وتختلف في التمسك بشر
عية الدكتور مرسي فك الله أسره أو لا تتمسك به. وفي النهاية، ماذا قدمت هذه المبادرات؟ لا أحد يدري، بل بعض هذه المبادرات تم نسيانها قبل أن يجف الحبر الذي كتبت به.
الجميع يطالب بالاصطفاف والوحدة، وهذا شيء حسن، فـ"يد الله مع الجماعة" كما في الحديث النبوي الشريف، والوحدة والتعاون شيء مطلوب وجيد، ولكن السؤال المهم هو: الوحدة من أجل ماذا؟ ثم يطالب هذا البعض بأن يتأخر الإخوان. وكما قيل، فإن الطويل (الإخوان) يقف في الخلف، كما يحدث في المدارس الابتدائية والقصير يقف في الأمام!!! وهذا المطلب يذكرني بما طلبه الأمين العام لحركة كفاية عام 2006 من الأستاذ محمد مهدي عاكف رحمه الله، عندما كان مرشدا للإخوان المسلمين، بأن يطلب من الإخوان في أنحاء الجمهورية النزول إلى الشوارع خلف مظاهرات حركة كفاية لدعمها واتباعها، ولم تكن الحركة واضحة، فقال الأستاذ عاكف: "الإخوان ليسوا مقاولين أنفارا"، بمعنى أن عليهم تجميع الناس لتتم قيادتهم من خلال هيئات وحركات ليست من الإخوان؛ لأنه لا أحد ينكر أن الإخوان هم أكثر القوى السياسية في مصر تنظيما وعددا، ومع ذلك يطالبهم البعض بان يكونوا في الصفوف الخلفية. وليس من المنطقي ولا من المعقول أن تعرّض أفرادك وتنظيمك لنتائج لا تعرفها وغير محددة. ولكن عندما ظهر الدكتور البرادعي وأطلق الدعوة إلى الجمعية الوطنية للتغيير مع عدد من المصريين، في الخارج والداخل، وطلب أن يوقع مليون شخص على الوثيقة التي تحدد المطالب، والتي وافق عليها الإخوان، فقد دعمها الإخوان. وكما يقال، فإن أكثر من 800 ألف توقيع تم جمعها من أفراد الإخوان المصريين، وقدمت الدكتور الكتاتني (فك الله أسره وإخوانه)، عضو مكتب الإرشاد وقتها، ليكون ممثلا لها في الهيئة التأسيسية للجمعية. وما زال البعض يدعي أن الإخوان ركبوا موجة الأحداث بعد 25 يناير، ولم يكونوا ممن ساهم في صناعتها.
وعودة إلى مبادرة
رفقاء الثورة، فبالرغم من أن الكثيرين
عارضوا هذه المبادرة، ولا أنكر أنني شخصيا أرى عدم جدواها وسوف تضاف إلى سابقاتها من المبادرات ولن تضيف شيئا، ولكن بعد إعادة التفكير أعتقد أن هذه المبادرة تنفرد في شيء لم يقدمه الإخوان من قبل، وهو أنها في نصها الذي نشرته الصحف لم تضع عودة الرئيس مرسي في مقدمة مطالبها، وهو المطلب الذي طالما طالبت به الجماعة، واعتبره البعض أنه حجر عثرة في سبيل التوحد في مواجهة الانقلاب.. بل وضعته في البند الخامس بعد بنود التحرير الأربعة الأولى. والجانب الثاني الجديد في المبادرة أنه في الحديث التلفزيوني للجزيرة الذي قدم فيه نائب المرشد
الأستاذ إبراهيم منير، المبادرة إعلاميا، ذكر أنه على استعداد أن يبايع الدكتور البرادعي ثم عاد وسحب الكلمة واستخدم لفظا آخر. وهنا أتوقف قليلا وكأن لفظ أو مصطلح "البيعة" لا يجوز استخدامه إلا في مجال البيعة الشرعية الإسلامية، وهذا ليس صحيحا، فالبيعة تعني التأييد والالتزام بما يتم الاتفاق عليه. فعندما أبايع فلانا، فيجب أن تكون هناك عناصر لهذه البيعة، حتى أن القرآن الكريم نص على عناصر بيعة النساء، وقد تمت مناقشة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه العناصر، ولكنه لم يوضح البيعة للرجال. إذن، فإنه يمكن أن يبايع الإخوان الدكتور البرادعي ويؤيدوه على ما يتفقون معه عليه. ونموذج ما حدث عام 2010 كان نوعا من البيعة له ليتزعم المطالبة بالبنود الستة التي اتفقوا عليها معه.
كلمة أخيرة: إن "مبادرة إلى رفقاء الثورة" قد تكون مثل ما سبقتها من مبادرات أو جمعيات أو مجالس ثورية، ولن تأتي بجديد، ولكن ما يميزها من وجهه نظري أنها قطعت شعره معاوية التي كانت تتحجج بها باقي القوى السياسية المختلفة؛ من أن ما يمنعها من التقدم وتحقيق انتصار على الانقلاب في مصر هو عدم تجاوب الإخوان، وأن الإخوان يريدون تصدر المشهد، وغير ذلك من مبررات واهية.. ولكن الآن وبعد هذه المبادرة قطعت الشعرة، وأبدى الإخوان استعدادهم للرجوع للخلف وإتاحة الفرصة "للقصير" ليكون في الأمام، فليس هناك أكثر من استعداد الإخوان "ليبايعوا" الدكتور البرادعي ويؤيدوه على ما يتفقون عليه معه، فهل يتقدم الدكتور البرادعي؟ لا أعتقد!!! وما أخشاه، وقد يكون متوقعا، أن يبدأ هؤلاء الرفقاء بالتشكيك في المبادرة، وأن هذا كلام نظري، وأنهم يريدون من الإخوان أشياء عملية تثبت أنهم جادون في استعدادهم للرجوع للخلف، وغير ذلك من مهاترات بين كل الرفقاء، إذا كانوا فعلا رفقاء ولم يكون كما في رائعة دوستويفسكي!!! وقد تصدر مبادرة أخرى من أي من هؤلاء الرفقاء (ليبرالي أو علماني أو يساري أو...) وتستمر الدائرة، وينشغل الناس بين هذه المبادرة وتلك، وتمر السنين.. والله المستعان. ولكني أكرر مرة أخرى أن النظر إلى القضية المصرية أو غيرها من القضايا، في سوريا أو ليبيا، وغيرها من المشكلات التي يمر بها عالمنا العربي والإسلامي، بهذه النظرة الجزئية، فلن تجدي شيئا ولن نحقق شيئا، ولو استمررنا عشرات السنين.. والله أعلم، وهو من وراء القصد وهو يهدي السبيل.