لا ينبغي السجال في الدور الخطير لاتفاقية أوسلو وتأسيس السلطة
الفلسطينية؛ في تسهيل
التطبيع بين "
إسرائيل" وبين الدول العربية، والذي ينكر ذلك هو إمّا متعنت أو مجنون، ولكن القول إن الفلسطينيين هم الذين فتحوا بوابة التطبيع قول خاطئ، وتخطئته لا تتناقض مع ما تقرّر في مطلع هذه المقالة.
والخطأ في هذه المقولة، فلأنّ اتفاقية أوسلو نتيجة لتطبيع العرب لا العكس.. صحيح أنّها عزّزت من ذلك التطبيع وسهّلت المزيد منه وفتحت له نوافذ جديدة، وصارت ذريعة تُحمّل المزيد من الدعاوى للاتصال بـ"إسرائيل" وتطبيع العلاقات معها، ولكنّ البداية لم تكن من عند أوسلو، وإنما من عند التطبيع العربي، والذي أخذ في تاريخه السابق على توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، أشكالا متعددة، أدناها انعدام الإرادة العربية في تحرير فلسطين، وبل وحصار الفلسطينيين في مقاومتهم، أو محاولة استخدامهم في اتجاهات متعددة، تخدم مصالح الأنظمة العربية في صراعاتها البينية أو تعزيز مواقعها في الإقليم والعالم.
لم يعدّ مجهولا أن بعضا من الأنظمة العربية، في المشرق والمغرب، أقامت علاقات سرّية أو شبه سرّية، مع "إسرائيل"، واتخذت شكلا منحطّا من الخدمات الأمنية الاستخباراتية لصالح "إسرائيل"، وذلك بعضه قبل حرب العام 1967، أيْ قبل أن تعظّم "إسرائيل" من وجودها وتجعل من مهمة إزاحتها أكثر صعوبة.
وبعض تلك الأنظمة أقام هذا النمط من العلاقات قبل حرب تشرين/ أكتوبر 1973، وقد تكشّفت كثير من هذه الحقائق بهذا الخصوص وبما لا تنكره حتى تلك الأنظمة، والتي بعضها يُفترض ألا تُعنى بهذه العلاقات لبعدها الجغرافيّ عن فلسطين، فلا المقاومة الفلسطينية مزعجة لها، ولا "إسرائيل" تهدد أراضيها، ولا الصراع مع "إسرائيل" يؤثّر على تنميتها واقتصادها. فالمعنى من هذه العلاقات الاستخباراتية السرّية، والتي كان يتولاها رأس الحكم في بعض الحالات، أن تلك الأنظمة ارتبطت في أساس وجودها؛ ارتباطا عضويّا أو وظيفيّا بوجود "إسرائيل" وتأسيسها.
ولو تجاوزنا عن التناقضات التي ظهرت بوضوح بين رؤى ومصالح الأنظمة العربية، بشقيها في تصنيف ذلك الزمن، رجعية وتقدمية، وبين المقاومة الفلسطينية ونهوض الشعب الفلسطيني، والتي عَنَت فيما تعنيه أن مهمة هذه المقاومة ضمن هذا الظرف المعقد بالغة الصعوبة، وأنّ نهوض الشعب الفلسطيني محاط بما لا يحصى من المثبطات، فإنّ التحوّل المفصلي في مسار
منظمة التحرير كان من بعد حرب تشرين/ أكتوبر، حينما انكشف التوجه المصري في استثمار الحرب نحو الصلح مع "إسرائيل".
سوف تكون النتيجة الحتمية لخروج مصر من الصراع هي اختلال التوازن الإقليمي، وبالتالي تصبح مسألة خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان مسألة وقت، وهذا الذي حصل بالفعل، فإنّ أحدا من الدول "التقدمية" لم يعوّض الثقل المصري بالقدر الكافي للحفاظ على مكانة المقاومة الفلسطينية في الصراع، ولا حتى العراق، بينما أدّى التدخل السوري في لبنان إلى كسر الحركة الوطنية ومعها المقاومة الفلسطينية، وبطبيعة الحال كانت بعض القوى اللبنانية قد تعاونت مع "إسرائيل" لا ضدّ المقاومة الفلسطينية فحسب، بل وضدّ الحركة الوطنية اللبنانية في حينه!
إذن، من الناحية الفعلية، كانت العلاقات السرّية بين بعض الدول العربية وبين "إسرائيل" قديمة ومبكّرة جدّا، وهذه العلاقات يوصف ما يشبهها اليوم بالتطبيع، كما يقال في الاتصالات السعودية الإسرائيلية، السرّية أو العلنية شبه الرسمية. أمّا العلاقات الرسمية المعلنة، فبدأت مع مصر وقبل أكثر من عقد ونصف على توقيع اتفاقية أوسلو، والحديث عن مصر يعني بالضرورة الحديث عن نصف العرب تقريبا، فكيف وهي متاخمة لفلسطين؟!
ثم جاء الاستثمار العالمي والإقليمي لحرب الخليج الثانية (عاصفة الصحراء) لاستكمال ترسيم موازين القوى بالشكل الكافي؛ لإخضاع منظمة التحرير لمشروع التسوية الذي نعيش مآلاته الكارثية اليوم. لا يعني ذلك أبدا تبرئة منظمة التحرير ولا تأخير توجهاتها التسووية إلى هذا الوقت، فقد بدأت هي أيضا مبكرا السعي لفتح الطريق صوب التسوية السلمية مع "إسرائيل"، لكن الذي يعنيه ذلك أولا أن التطبيع العربي الإسرائيلي سبق اتفاقية أوسلو، وثانيا أن هذه الأخيرة نتيجة.
هذه الأخيرة كانت ذريعة زائفة، ولم تكن سببا حقيقيّا للمسارعة في تطبيع العلاقات العربية مع "إسرائيل". فالقضية الفلسطينية لم تُحلّ بتوقيع الاتفاقية ولا الصراع انتهى، وبما أنّها في الأساس قضية عربية، أو يفترض أن لدى العرب التزاما تجاه الفلسطينيين، فالواجب كان يقضي بانتظار ما تنتهي إليه اتفاقية أوسلو، أو كان يقضي أن تتأخر الدول الأبعد جغرافيّا عن فلسطين والأقل تأثّرا بالصراع.. في تطبيع علاقاتها مع "إسرائيل"، لكن الملاحظ العكس، وهو أن أكثر من نصف دول الخليج أقام - حينها - علاقات علنية أو شبه علنية معها.
بالتأكيد، لم يكن ذلك إلا لأنّ تلك الدول لديها أسبابها الخلاصة التي لا علاقة لها بخيارات الفلسطينيين، وإنما كانت "خيارات الفلسطينيين" مجرد غطاء لا أكثر، وأمّا أسبابها، فإمّا أنها متعلقة بتوازناتها البينية في فضاء الخليج العربي، وبالتالي حاجتها لتعزيز نفوذها لدى الولايات المتحدة من البوابة الإسرائيلية، أو لأنّها تقوم بأدوار وظيفية مملاة عليها أساسا!
ولو سلّمنا تنزّلا أن العملية السلمية وقتها كانت في ذروة البدايات، وقد تعلّقت بها آمال كبيرة، وجاء ذلك التطبيع في هذا السياق دفعا لها بنوايا "طيبة"، فما الحال الآن وهذه العملية تنتهي إلى تهويد القدس واستكمال السيطرة على الضفة الغربية، وقد بات محتّما أنها لم تعد قائمة ولا تعد الفلسطينيين إلا بالمزيد من تصفية حقوقهم؟! فكيف ومشاهد التطبيع قد جاءتنا وغزّة تختنق والشهداء فيها يرتقون يوميّا؟! حتما سيجعل بعضهم من هذه المعاناة ذريعة لتطبيعه الأخير!
هذا ومقولة "خيارات الفلسطينيين" خاطئة، فلا يملك الفلسطينيون نظاما تقليديّا يمثّلهم، وإنما في أحسن الأحوال كانت تلك خيارات منظمة التحرير التي فُرضت عل شعب يكابد الاحتلال، وهي في حقيقتها خيارات النخبة المتنفذة في المنظمة، وقد انقسم الفلسطينيون حولها من ساعتها، وأيّا كان الأمر، فإنّما هي نتيجة لموازين قوى، من تمثّلاتها التطبيع العربي المبكر مع "إسرائيل"، السرّي والعلني، والرغبات اللحوحة في التخلّص من القضية الفلسطينية، والاستفادة من الوجود الإسرائيلي، وقد سبق كلّ ذلك حصار المقاومة الفلسطينية وجعلها فعلا مستحيلا، أو محاولة توظيفها توظيفا ضيقا على حساب مهمتها الأصلية..
الفكرة هنا، أنّ قول بعضنا، نحن الفلسطينيين، إننا من فتح بوابة التطبيع، ينطوي على تبرئة المجرم الأصلي من جريمته الأولى التي استتبعت الجريمة الثانية، وهي أوسلو، وإذا كان واجبنا - وهو كذلك - إدانة أوسلو دائما وأبدا، فينبغي ألا ننسى ما سبقها مما أفضى إليها، كما ينبغي ألا نكفّ عن التأكيد على أنّ قضيتنا هي قضية عربية قبل أن تكون فلسطينية، كما أنّ أوسلو لم تكن خيارا لنا، وإنما هي أمر فُرض علينا وقاومه كثير منّا!