ليس ثمة شك أن للسلطة جاذبية، لا يُدرك حجمَها غير الذين مارسوها وتذوقوا طعمها. فهي طريق سالِك إلى الوجاهة والجاه والتميّز والتقدير، الممزوج بالترغيب والتخويف. وهي، في المقابل، كما يظن البعض، فرصة سانحة للاغتناء، وإمكانية مُفضية إلى الإثراء بغير حق. بيد أن
السلطة، من زاوية أخرى، حمّالة أضرار، وتكلفتها باهظة، وقلما يغادرها صاحبها بنفس الإرادة، والقوة، والمناعة التي تمتع بها وهو يلِج عوالمها المعقدة.
إذا كانت السلطة بكل هذه المفارقات، كيف تبدو صورة "
الإسلاميين" بعد مرور سنين من الممارسة في بعض الدول العربية؟ وكيف يمكن تقييم فعل جاذبية السلطة عليهم من زاوية الربح والخسارة؟ وكيف ينظرون إلى ذاتهم وينظر الناس إليهم، بعدما تذوقوا طعمها، وإن بدرجات مختلفة من بلد إلى آخر، ومن سياق إلى آخر مغاير عنه؟.. أما المعني بـ"الإسلاميين"هنا، فهم تحديدا "
الإخوان" في مصر، وحزب "النهضة في تونس"، وحزب "العدالة والتنمية" في المغرب.
ثمة قواسم مشتركة بين الحالات الثلاث، منها أن "الإسلاميين" في الدول الثلاث ظلوا خارج السلطة، يجهدون من أجل فرض الاعتراف بهم، وفتح المجال السياسي للتنافس على السلطة ومؤسساتها، ولم يتوفروا لهم ذلك إلا مع سياق "الحراك العربي"، أو ما سمي "الربيع العربي". تشترك الحالات الثلاث في كونها دخلت حلبة التنافس على السلطة في زمن سياسي موسوم بتراجع مكانة الأحزاب التقليدية، وتآكل شرعيتها، وتطلع قطاعات واسعة من المواطنين إلى بدائل سياسية جديدة قادرة على زرع روح الأمل في نفوس أبنائها بإمكانية تحقيق التغيير نحو الأفضل.
ففي مصر سطع بريق "الإسلاميين" في سياق ثورة الرابع والعشرين من تشرين الأول أكتوبر 2011، وما أعقبها من تطورات لاحقة، والأمر نفسه حدث في تونس، حيث تمكن حزب النهضة من اكتساح انتخابات ما بعد سقوط النظام في 14 كانون الثاني/ يناير 2011. أما في المغرب، حيث يتميز السياق بمعطيات مختلفة عن نظيراتها في كل من مصر وتونس، فقد تمكن "الإسلاميون" من الفوز بنتائج مهمة في انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، قادتهم إلى قيادة العمل الحكومي. أما الاختلافات فكثيرة ومعقدة، لعل أبرزها أن السياق مختلف من بلد إلى آخر، ومكونات النظام وثقافة نخبه متباينة وليست على نفس المنوال. ثم إن بينما توقفت تجربة "الإخوان" في مصر، وعاد الجيش بلباس مدني إلى السلطة، استمر حزب النهضة في تونس متحالفاً مع قوى ، تارة تقتسم معه بعض القيم والقناعات، وكثيرا ما تكون بعيدة عنه، وإن جمعتها معه تحالفات الضرورة. أما في المغرب، فدخول "الإسلاميين" عبر حزب "العدالة والتنمية" أضفى على الحياة السياسية طابعا خاصا، لا سيما خلال السنوات الأولى من ولاية 2011 - 2016، قبل أن تهتز مكانتهم مع العام 2013، وتضعف أكثر مع تشكيل حكومة 2016.
يُسجل المنتقدون لأداء "الإسلاميين" في الدول الثلاث أن ممارسة السلطة فتحت شهيتهم، فابتعدوا بالتدريج عن الشعارات التي أسسوا على قاعدتها شرعيتهم السياسية والانتخابية، بل يذهب البعض إلى وصفهم بالمسؤولين عن تقهقر أوضاع الناس وتراجع شروط عيشهم، وضعف قدراتهم الشرائية. ويضيف آخرون إلى شهية السلطة والاستمراء في الاستفادة منها أعادوا إنتاج ما كان قائما قبلهم، أي بث روح "المحسوبية"، والولاء الحزبي والشخصي، واستبعاد مبادئ الجدارة والاستحقاق وتكافؤ الفرص في توزيع إمكانيات البلاد وخيراتها.. فقد قاموا، بحسب رأي هؤلاء، بترسيم أنصارهم في مواقع المسؤولية، وسعوا إلى التحكم في مفاصل الدولة، بأفق تحويلها إلى دولتهم، وليس دولة الجميع.. وقدا علت نغمة هذا الخطاب النقدي في حق "الإسلاميين" في مصر على وجه الخصوص، وبدرجة أقل في تونس والمغرب .. كما أن وعود "الإسلاميين" وتعهداتهم كانت أكثر من انجازاتهم على أرض الواقع.. وهو ما دفع ببعض المنتقدين إلى القول بضرورة رفع الشرعية الانتخابية عنهم بسبب ضعف شرعية الإنجاز.
الواقع، أن هذه الانتقادات وغيرها وهي كثيرة، وإن كانت منطوية على بعض عناصر الصدقية ولصحة، ففيها الكثير من التضخيم والمبالغة أحيانا، أو على الأقل لا تأخذ بعين الاعتبار السياقات التي تحكمت في ما آلت إليه تجربة "الإسلاميين"، تحديدا في مصر، وإلى حد ما في تونس والمغرب. لذلك، سيكون مفيدا من الناحية الموضوعية إعادة تقييم تجربة دخول "الإسلاميين" دائرة السلطة، واختبارها بالممارسة، من خلال شبكة تحليل أكثر علمية وحيادية، وتجنب الأحكام المسبقة التي لا تساعد على بناء تقييم مفيد لتجربة جديرة، على عللها، بأن تُفهم بشكل أعمق، وتُستخلص منها الدروس الواجب استخلاصها لتطوير الحياة السياسية لكثير من البلدان العربية، التي ما زال الطلب الاجتماعي فيها على المرجعية الإسلامية مستمراً ومتجدداً، وقد يتزايد أكثر في المستقبل.