الولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى الهدوء في بيئة القضية الفلسطينية وحاضنتها، وبالتحديد في الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك لكي تتمكن من تمرير قرارات ترامب بشأن الصراع العربي الصهيوني.
اتخذ ترامب قراره بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ولم يواجه أزمة مع الفلسطينيين ذلك لأن الضفة الغربية هادئة إلى حد كبير، واكتفت قيادتها المفروضة ببعض الأحاديث الإعلامية التي لم تسمن ولم تغن من جوع.
وانتظر ترامب لتهدأ الزوبعة الخافتة لإعلان صفقة القرن، لكنه اصطدم بأوضاع متفجرة في غزة تضعه وتضع قيادة الضفة الغربية وقيادات عربية أخرى في مأزق أو حرج كبير. وواضح أن ترامب أجل إعلانه حتى يحين الوقت المناسب.
والصهاينة بحاجة أيضا إلى تهدئة واستقرار ولو نسبي في المنطقة ليتخذ ترامب قرارا بالاعتراف بيهودية الدولة ومن ثم الانقضاض على حق العودة وإعطاء الصهاينة الضوء الأخضر لتهويد الضفة الغربية، والقضاء على فكرة إقامة دولة فلسطينية على أرض فلسطين.
وأفسدت مسيرات العودة التي قام بها قطاع غزة على ترامب وعملائه في المنطقة خطته في تصعيد الإعلانات حول سياساته بشأن القضية الفلسطينية.
وصنعت المسيرات توترا كبيرا في فلسطين، واستدعت وسائل الإعلام العالمية التي طالما تجاهلت حق العودة، وأثارت اهتمام العديد من الدول، وأعادت القضية الفلسطينية إلى المنظمات والمحافل الدولية.
وكان أن الكيان الصهيوني بعنجهيته المعهودة قد رفع من مستوى التوتر عندما فتح النيران الكثيفة على المتظاهرين السلميين. وضعت غزة القضية الفلسطينية في مكانة عالية، وفتحت ملف حق العودة الذي يعتبر أحد الثابتين الفلسطينيين.
ونتيجة لذلك تصاعد التوتر، وأصيبت نوايا ترامب العدوانية بالشلل ولو مؤقتا. لم يستطع ترامب إكمال مشواره العدواني ضد الشعب الفلسطيني. ولذلك ليس من غير المتوقع أن تضغط أمريكا على الصهاينة لقبول الوساطة المصرية غير المعلنة مع المقاومة الفلسطينية. وفعلا تمت التهدئة المعلنة فلسطينيا والمنفية صهيونيا.
نفى الصهاينة التوصل إلى تهدئة، لكنهم كانوا الأشد رغبة بحصولها ذلك لأنهم غير جاهزين لحرب لا على مستوى الجيش ولا على مستوى الجبهة الداخلية. وفي قضايا التهدئة هناك علامتان بارزتان وهما:
الأولى تتعلق بالصهاينة وهي أنهم يرفضون التهدئة المكتوبة. هم لا يوقعون إلا في ظروف خاصة جدا مثل اتفاق أوسلو.
وهم يكتفون عادة بتفاهمات شفوية غير ملزمة، ومن ثم ينفون التوصل إلى هدنة أو تهدئة، ولا إثبات على كذبهم.
الثانية تتعلق بالفلسطينيين الذين يقبلون التهدئة والسكينة قبل أن تنضج جهودهم وتؤتي تضحياتهم ثمارها. هذه مسألة عالقة بالسلوك الفلسطيني منذ إضراب عام 1936، وتوقفهم عنه بناء على مناشدات حكام عرب ليخلدوا إلى السكينة لأن "الصديقة" بريطانيا كانت ستغير ما هي عليه.
والآن المناشدات تتم تحت مقولة أن "الصديقة إسرائيل" ستتوقف عن ذبح الفلسطينيين. وبهذا كان الفلسطينيون يهدرون التضحيات دون نتائج إيجابية.
هذه المرة لا تختلف عما سبق إذ قام الصهاينة بقصف أهداف عدة للمقاومة الفلسطينية في اليوم التالي لإعلان التهدئة.
وهنا يجب أن نتوقف عند السلوك الصهيوني الخاص بعدم الالتزام وانتهاك العهود. فهل هناك من بين العرب من يستطيع إقناعنا بأن الصهاينة يحترمون الاتفاقيات والعهود؟ العرب وعلى رأسهم محمود عباس يستمرون في الالتزام على الرغم من أنهم يرددون دائما عدم التزام الصهاينة بالاتفاقيات. الفلسطينيون يلتزمون باتفاق أوسلو على الرغم من أنهم يتهمون الصهاينة بخرق بنود الاتفاق مرارا وتكرارا. ربما نحن نريد إقناع العالم بأننا محترمون يسهل خداعنا.
لم يكن من المجدي أن تقبل غزة فكرة التهدئة بخاصة أن الصهاينة في مأزق ولا يبحثون عن حرب مخافة الفشل والهزيمة. يجادل أهل غزة بأن ظروفهم قاسية والتضحيات التي يقدمونها ضخمة جدا، والناس لا يتحملون المزيد من الآلام والأحزان. صحيح أن غزة في ضائقة شديدة جدا، والصديق يشارك في جلدها مع العدو.
الأمم تكالبت على غزة، ولا يوجد هناك من يحاول كسر الحصار بالقوة. بعض الدول ترجو الصهاينة والعرب رفع الحصار، وأغلب دول العالم بمن فيها دول عربية تشدد الحصار على الدوام. هذا أمر مفهوم لدى كل فلسطيني وعربي، لكن غزة اختارت أن تبقى الحارس الأمين على القضية الفلسطينية، وهي فعلا كذلك، ولولا صمود الناس في قطاع غزة لصنع بنا الأعداء الأقربون والأبعدون ما لا يخطر على بال بشر.
الحمد لله أن هناك مقاومة في غزة، وتمكنت من إفشال ثلاث حروب متتالية ضدها، وهي بالتأكيد وبإذن الله ستُفشل أي حرب قادمة.
واختارت غزة طريق العزة والكرامة والإباء والصبر والتحمل، والتضحية في سبيل الله والوطن والمقدسات والشعب، ومن المهم أن يبقى هذا النفس متواصلا وألا ينقطع.
ويكفي غزة فخارا أنها صمدت كل هذه السنوات ولم يتمكن عتاة الأرض وعتلّوها من هزيمتها. الأعداء يبحثون عن استقرار ليمرروا مخططاتهم، لكن غزة تبقى الكابوس الفلسطيني المرّ الذي يفسد عليهم مؤامراتهم.
التصعيد الأخير في غزة.. عودة إلى أزمة المقاومة
مسيرة العودة.. أين أصبنا وأين أخطأنا؟