جاء ترتيب المغرب في تقرير التنمية البشرية، الصادر مؤخرا عن الأمم المتحدة، مخيباً، وغير مشرف للمغاربة، الذين يتوقون لأن يكون بلدهم في مرتبة أفضل، تليق بتاريخهم، وتعكس طموحاتهم الفردية والجماعية. فاحتلاله المرتبة 123 في سلم التنمية البشرية من أصل 188، لا يتلاءم مع الصورة المُسوّقة عن الإصلاحات الجارية منذ عقود، والمشاريع المهيكِلة الكبرى التي انخرطت فيها البلاد على مدار عدة سنوات. بل إن تقرير هذا العام (2017) قدّم المغرب كحالة غير مفهومة، حتى لا نقول شاذة، حيث سبقته في الترتيب دول من جواره (الجزائر/83 ـ تونس/97 ـ مصر/111)، وتقدمت عنه أخرى تعيش أوضاع الحرب وعدم الاستقرار، مثل ليبيا والعراق، ولم يبق من الدول المناظرة في المستوى سوى بلدان أنهكتها هي الأخرى الحروب وعُسر الأوضاع، كما هو حال السودان وموريتانيا واليمن، أما في الضفة الشمالية للمتوسط، فيبدو حال المغرب أكثر إحراجا، حيث جاء في أسفل الترتيب.
دأبت الحكومات المغربية المتعاقبة على عدم الاعتراف بالتقارير الدولية، بما فيها تقرير التنمية البشرية، وظلت تشكك في صِدقيتها، أي في موضوعية ونزاهة معطياتها، حجتها في ذلك أنها لا تأخذ بعين الاعتبار ببعض المعايير التي من شأنها تمكين المغرب من تحسين مراتبه، أو تأخذ بمعايير لا تخدم أداءه في مجال التنمية.. علما أن المعايير المعتمدة من قبل منظمات الأمم المتحدة ذات العلاقة موحدة وواضحة، وتستند على المعطيات الكمية والإحصائية الصادرة رسميا عن البلدان المعنية، وتعتمد في إعدادها وصياغتها كفاءات وخبرات دولية متعددة الجنسيات. والأكثر من ذلك، لم تأخذ الأمم المتحدة في تقريرها الأخير بمعيار "الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد"، الذي ظل محل اعتراض من قبل المغرب، بل اعتمد شبكة من المؤشرات الدالّة، القادرة على قياس واقع التنمية في شموليته، مثل "سهولة الاستفادة من التعليم"، و"المساواة بين الجنسين"، و"العدالة الاجتماعية"، و"حرية التعبير".
ليست حالة المغرب عصِيّةً عن الفهم، أو غير قابلة لتحديد مصادر حصولها، إنها بالعكس، واضحة، وقابلة للتحليل المبني على المنطق والموضوعية. فما يشكل "وضعاً شاذا" لدى البعض، أو ترتيباً غير متوقع وغير مفهوم لدى آخرين، يُعبر في الحقيقة عن مصفوفة من المفارقات التي تسِمُ الواقع المغربي، وتضغط على إمكانيات تطوره نحو الأفضل، وبدون الاعتراف بحقيقة هذه المفارقات، وتوفير الإرادة الفعلية والصادقة لتجاوزها، لن يجد المغرب طريقه نحو التنمية التي ينشدها عموم المغاربة.
لو توقفنا عند المفارقة في "السياسة" وعالمها المعقد والمتشابك، للاحظنا أنه على الرغم من ترسانة الإصلاحات التي أقدم عليها المغرب منذ عقود في المجالات الدستورية والقانونية والمؤسساتية ـ والتي سعت في ظاهرها إلى إعادة تكوين ثقافة سياسية جديدة تنتصر لحرية الأفراد والجماعات، وتُعلي من مكانة القانون وحكم المؤسسات، وتوطن معايير النزاهة والمساءلة والمحاسبة ـ ما زالت السياسة، بحسبها فعلا بشريا يروم التنظيم، وإدارة الاختلاف بشكل سلمي، وتوفير شروط العيش المشترك، مترنحة وغير قادرة على إنتاج آثارها الفعالة والمطلوبة، بل بالعكس، ألمّت بها لوثةٌ، شوشت على وظائفها النبيلة، وأبعدتها عن مقاصدها المشروعة، وزرعت في نفوس الناس إحساساً عميقاً بالتشكيك وعدم الثقة.
لاشك أن علم الاقتصاد، والاقتصاد السياسي تحديدا، يساعد كثيرا على وضع اليد على الحلقة المفقودة لفهم هذه المفارقة. لنلاحظ أن مجمل التجارب التي نجحت في بناء نماذج تنموية متقدمة في أكثر من بقعة من العالم، تمكنت في لحظة معينة من تعزيز نجاح بنائها الاقتصادي بنجاح مواز ومناظر له في الميدان السياسي، والدول أمامنا كثيرة في العالم. فهل مثلا كان ممكنا لتركيا الوصول إلى ما وصلت إليه لو لم تعزز بناءها الاقتصادي بتجربة سياسية ناجحة منذ العام 2002؟ والأمر نفسه ينسحب على كوريا الجنوبية، وقبلهما ماليزيا، والقائمة طويلة. الحلقة المفقودة هنا أنه حين تكون الحرية شعاراً، أو مقولة مقطوعة من وعائها الثقافي الديمقراطي، تفتح الباب أمام كل آليات تدمير الاقتصاد، وإعاقته في مراكمة الفوائض الضرورية للانطلاق، وعلى رأسها وفي صدارتها الفساد بكل أشكاله ووسائله.
تدفعنا المفارقة الثانية إلى التساؤل لماذا عز على المغرب بناء نموذج تعليمي ومعرفي ناجح على الرغم من اعتراف الجميع بفشل تجربة أكثر من نصف قرن؟ فنحن نُنفق أكثر من ربع موازنتها العامة على تعليم يتراجع، وتنضب نواتجه بانتظام.. بل الأخطر فقدنا حتى مقومات المدرسة العمومية التي عرفها المغاربة، ودرسوا وتعلموا فيها، وتخرجت منها كفاءات مشهود لها بالعطاء على امتداد العقود الثلاثة الأولى التي أعقبت الاستقلال، لنجد أنفسنا بعد ستة عقود متدحرجين بين المراتب المتأخرة في سلالم التربية والتكوين، ولنستفق بشكل مؤلم بعد الفينة والأخرى على قصص ما يجري، مع الأسف في مدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا التربوية عموما، ولنلاحظ، بالموازاة وبقدر كبير من الحزن، كيف أن الدول التي توطنت فيها ثقافة حقوق الإنسان، وتحققت التنمية في ربوعها، أسست نماذج ناجحة في التعليم والمعرفة.
ليس المغرب أقل قدرة وكفاءة من النماذج المشار إليها أعلاه، فقد كان في مستوى كوريا الجنوبية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وليس بعيدا عن تركيا وماليزيا في هذا الإبان، لكن الفرق بيننا وبينهم أنهم آمنوا وصمموا على بناء أوطانهم، ونحن ما زال بيننا من يسعى بكل ما أوتي من جهد إلى تعطيل حركية البناء في وطنه.