لن يجد المرء كثيرا من العناء إذا أراد أن ينتقد أو يسخر من زلزال الإعفاءات والاعتقالات للأمراء والوزراء ورجال الأعمال والمسؤولين العسكريين والأمنيين في المملكة العربية السعودية، لكن المشكلة ليست في البحث عن مادة للسخرية والتندر، فالاعتقالات الضخمة التي تعرض لها هؤلاء، وفي لحظة واحدة، تشير إلى أزمة أكبر.
بعض المقاربات بدأت تقرأ الحدث في سياق التصفيات السياسية للخصوم والمنافسين، والبعض الآخر ركز على الجانب الكاريكاتوري من الصورة، وبالتحديد الزمن الفاصل بين إنشاء لجنة تحقيق وبين تنفيذ خلاصة تقرير هذه اللجنة، إن كان هناك تحقيق وكانت هناك نتائج، وإن كان هناك سابق اتهام، وإن كانت هناك جهة قضائية يتم فيها اختبار هذه الاتهامات ومنح المتهمين الحق في الدفاع عن أنفسهم!!
لكن المشكلة بالتأكيد هي أعمق من ذلك، فلم يحدث يوما أن كانت قرارات المملكة العربية السعودية تقاس بمعايير الديمقراطية والحقوق والحريات ومبادئ العدالة؛ حتى يتم استغراب هذا الزلزال من هذه الزاوية.
الاعتقالات مست المؤسسات جميعها من غير استثناء: المؤسسة الملكية، والمؤسسة الحكومية، والمؤسسات الأمنية والعسكرية، والنخب الاقتصادية، ومؤسسة العلماء
الملاحظة التي تستدعي التوقف في هذا الحدث أن الاعتقالات والتوقيفات شملت ابتداء العلماء والدعاة وقادة الرأي في المملكة العربية السعودية، ثم طالت مسؤولين في الجيش والأمن، ثم طالت أمراء ينتمون إلى الأسرة الملكية، ومست الحكومة ورجال الأعمال. أي أن الاعتقالات مست المؤسسات جميعها من غير استثناء: المؤسسة الملكية، والمؤسسة الحكومية، والمؤسسات الأمنية والعسكرية، والنخب الاقتصادية، ومؤسسة العلماء.
ليس لدينا في العالم العربي ما يكفي من الدراسات التي تقدم لنا معطيات عن كيفيات حصول الانتقالات في الحكم، خاصة داخل الأسر الحاكمة، لكن، على الأقل، في الملكيات العربية ثمة حالة من الانسيابية في الانتقال، تعتمد على أسلوبين متزاوجين: التكيف مع النخب القديمة، مع العمل على خلق شروط تغييرها أو تغيير غير المتكيف منها مع طبيعة النظام الجديد وحاجياته.
يكفي أن نتأمل في هذا الصدد النموذج الأردني والنموذج المغربي؛ اللذين حصل فيهما الانتقال بسلاسة كبيرة، وتم تغيير النخب أو بعضها في سياق دينامية انسيابية ابتعدت كثيرا عن منطق القطيعة أو منطق الجدرية. واليوم، يمكن أن نسجل داخل النموذجين معالم التحول، مع تسجيل احتفاظ العديد من النخب القديمة بمواقعها، سواء داخل المواقع الاقتصادية أو المؤسسات الأمنية والعسكرية، أو حتى مؤسسات الخبرة والاستشارة القريبة من دائرة الحكم أو المؤسسة الحكومية.
انتقال الحكم في السعودية لا يتطلب كل هذا المسار المغامر الذي يكاد يعصف باستقرار وأمن ووحدة المملكة، وربما تهديدها بحرب أبناء الإخوة
صحيح أن الوضع في المملكة العربية السعودية مختلف، بحكم استنفاد الصيغة "الدستورية" في انتقال الحكم أغراضها، وبروز تحدي ارتهان الحكم لصراع الأمراء أبناء الإخوة، لكن مهما يكن، فإن انتقال الحكم في المملكة العربية السعودية لا يتطلب كل هذا المسار المغامر الذي يكاد يعصف باستقرار وأمن ووحدة المملكة، وربما تهديدها بحرب أبناء الإخوة؛ إلا أن تكون الصيغة التي يراد فرضها في تدبير العلاقات بين مكونات الأسرة الملكية مجحفة أو غير قادرة على تحصين وحدتها.
لكن طبيعة الاعتقالات تشير إلى أن القضية هي أكبر من مجرد صراع داخل مكونات الأسرة الملكية، وأنها أقرب إلى أن تكون رغبة في تصفية نظام تمت بلورته وترسيخ أركانه لأكثر من قرن من الزمان، مع الملك عبد العزيز آل سعود، في أقل من ستة أشهر، بما يعني ذلك السعي لإحداث تغيير جذري في المؤسسة الأمنية والعسكرية والنخب الاقتصادية والنخب السياسية، وحمل المؤسستين المتحالفتين، الدينية والملكية، على قبول التغيير بالقهر والتغلب.
طبيعة الاعتقالات تشير إلى أن القضية أقرب إلى أن تكون رغبة في تصفية نظام تم بلورته وترسيخ أركانه لأكثر من قرن من الزمان
بالتأكيد، إن كان القصد هو تحقيق الانتقال في الحكم وتغيير بنية النظام والقطع مع إرثه بهذه الطريقة، فإن النتيجة ستكون كارثية، وربما تدخل المملكة العربية السعودية بسبب هذه المغامرة إلى دائرة الخطر، وتهديد استقرارها ووحدتها، حتى ولو تم افتعال سياقات دولية وإقليمية مساعدة، وذلك لسبب بسيط؛ أن كل انتقال في الحكم تواجهه بالطبيعة نزعة المحافظة التي تمثلها عناصر النظام السابق، وهزمها لا يمكن أن يحصل من غير شرعية، والشرعية لا تنال من غير توافق، والتوافق لا يحصل من غير تكيف، والتكيف عدو القطيعة.
خلاصة الرسائل المستخلصة من هذه الاعتقالات؛ أن ثمة أزمة شرعية عميقة في المملكة العربية السعودية، وأن هذه الاعتقالات ستزيد من تعميقها، وستخلق شروطا غير مسبوقة تتجسر عندها العلاقة بين الشرائح الشعبية؛ وبين مراكز القوى التي تعرضت للاعتقال أو التي تنتظر دورها، وستؤسس لبداية القطيعة والتباعد بين المؤسسة الدينية، أو على الأقل بعض رموزها، وبين النظام الجديد.
التحليل الموضوعي للوقائع يشير إلى وجود أزمة شرعية حكم غير مسبوقة في السعودية، تنذر بتحولات خطيرة في المستقبل القريب والمتوسط
قد يتم الاعتراض على هذه الخلاصة بمعطيات السياق الدولي، أو بوجود إرادة دولية ما تسعى لتحقيق هذا التحول داخل السعودية بهذه الطريقة الفجة، لكن ليس من عادة الولايات المتحدة الأمريكية، أو غيرها من الإرادات الدولية النفاذة، أن تدفع بالتغييرات القسرية التي لا تضمن تداعياتها، خاصة إذا كانت تعمق أزمة شرعية النخب التي تخدم مصالحها أو تصب في خانة الجبهة التي تعارض مصالحها في المنطقة، إلا أن يكون القصد إشغال المملكة العربية السعودية بأزمة غير مسبوقة، لتيسير تحول سياسي استراتيجي في المنطقة يفترض أن يكون حياد السعودية أو اصطفافها ضد المصالح القومية؛ مسألة حيوية.
وفي هذه الحالة، ستكون استقالة سعد الحريري من غير سابق إنذار، جزءا من هذا التحول الذي يتوقع حصوله، وتكون الاعتقالات الضخمة التي عمت كل هذه النخب جزءا من استراتيجية تحييد الاعتراض الداخلي، على شاكلة اعتقال العلماء الذين يفترض أن يكون موقفهم مربكا للتوازنات الدقيقة المطلوبة.
إذا صح هذا التخمين، فالخيال السياسي يميل إلى إمكان تدخل إسرائيلي وشيك في لبنان؛ يستهدف تغيير واقع الأرض في سوريا من بوابة لبنانية. لكن التحليل الموضوعي للوقائع يشير إلى وجود أزمة شرعية حكم غير مسبوقة في السعودية، تنذر بتحولات خطيرة في المستقبل القريب والمتوسط.