مرت أربع سنوات على الانقلاب
العسكري الذي جرى بمصر منتصف 2013، وعلى مدار هذه السنوات توالت انتكاسات الثورة حتى وصلنا للَحظة يقوم فيها الحاكم بصفع المجتمع كله على وجهه ثم يخرج شاكرا مواطنيه على صمتهم بعدما قال لمستشاريه اطمئنوا لن يتحرك أحد.
طوال هذه السنوات سنحت بعض الفرص لاسترداد الثورة أو على الأقل محاولة إعادتها للطريق الصحيح، بدءا من لحظة إعلان عزل مرسي وما صحبها من إمكانية وجود حلول سياسية تقلل من خسائر بسط السيطرة العسكرية والقمع الأمني، مرورا بلحظات فوران الشارع في تظاهرات فقدت قيمتها بسبب القائمين عليها، أو ترفّع من شارك في الحشد ضد الإخوان عن المشاركة معهم في وجه خصم مشترك سيقضي على الجميع، وأيضا إصرار الجماعة على تصدير فكرة عودة مرسي للحكم في تظاهراتها، فتضافرت عوامل إخماد هذا الفوران حتى وصلنا للحظة الخمول الكامل رغم وجود محفزات النشاط بوفرة.
رغم مرارة ما جرى واستلزامه بالضرورة تطهير أي جرح ليتعافى البلد من
الاستبداد -وهو أشد الأمراض فتكا- لا تزال أغلب أطراف المعارضة غارقة في مستنقع الاستقطاب، وتكفينا معرفة أن هناك أطرافا داخل من يسمون بالتيار المدني يرفضون مجرد التنسيق مع حزب سياسي مسجّل كمصر القوية لأنهم إسلاميون بنظرهم، رغم تأكيد الحزب على لسان بعض قياداته الشبابية أنه ليس حزبا إسلاميا بالمعنى التقليدي، فضلا عن شراسة الحزب في معارضة مرسي، فإذا كان هذا حال "التيار المدني" مع
مصر القوية، فكيف سيقفون مع من هم أكثر تصريحا بالهوية الإسلامية كحزب الوسط مثلا؟ والسؤال الأهم كيف يمكن لهؤلاء أن يديروا شأنا عاما إذا كانت لهم فرصة ولاية أي مكان بالدولة كوزارة أو محافظة أو حتى نقابة؟ في تقديري أن تجربة ما بعد 30 حزيران/ يونيو تجربة مقلقة للغاية من جنوح بعض رموز ذلك التيار للاستئصال ومباركة قتل مخالفيهم، "لاحظ أن هؤلاء من يطلق عليهم التيار الديمقراطي" فضلا عن النقاشات الدائرة حتى الآن بين من رفضوا الانقلاب وإزهاق الدم في رابعة، ولكنهم يرفضون التنسيق مع حزب كمصر القوية، فأي رسالة يريدون إيصالها لقواعدهم وللمختلفين معهم؟
انتكاسة الثورة كانت في القِسمة بين إسلاميين وعلمانيين، ولا يمكن لأحد أن يذيب الفروق لكن يمكننا دائما أن ندير الاختلاف بيننا، والاتفاق على الحد الأدنى، وهو تساوي المواطنين جميعا في الحقوق والالتزامات، والاحتكام للشارع في الخلافات السياسية لا الاستقواء بأحد الأطراف الخشنة داخل الدولة أو البلطجة بالشارع، وهذا الحد الأدنى تزعمه كل الأطراف ولا تؤمن به حقيقة كما خبِرْناهم في تجربة الثورة المريرة، فلم يعد ممكنا إخفاء تفاهم الإخوان مع الجيش في مرحلة ما، كما لا يمكن إنكار أن المشاركين في 30-6 كانوا يعلمون أنهم ذاهبون لانقلاب عسكري، وإلا كانوا أغبياء، لكنهم أوهموا قواعدهم أنهم سيقدرون على تحجيم دور العسكر فيما بعد، وأنه سيحتاج للشباب لتجميل وجهه أمام الغرب، وغير مفهوم كيف ظنوا ذلك أم هو مجرد تبرير للخطيئة؟ ومن صنعوا "الميدان الثالث" تحديدا كانوا هم وقود الاحتجاجات وقاطرة الدعوة للشارع ونجوم الفضائيات، ورفع شعار "يسقط كل من خان، عسكر، فلول، إخوان" ليس سوى محاولة ساذجة وخبيثة للتطهر من دعوة أجروا مِياها كانوا يعلمون مصبّها، وأبسط ما كان يمكنهم الانسحاب من الشارع ودعوة المحتجين للانسحاب من التظاهر، لوجود دلائل الالتفاف على مسار الثورة بانقلاب عسكري وبتحالف مع الأجهزة الأمنية والقوى المجتمعية المضادة للثورة، وإشعال البلاد باقتتال سياسي، لكنهم لم يفعلوا رغم وضوح ما كان سيحدث مستقبلا.
بغض النظر عن أخطاء كل طرف، فلا تزال الفرصة سانحة لاجتراع المرارات وتجاوز الخلافات لأجل الوصول لهدف واحد "نزع الاستبداد، والاحتكام للشارع" والجدل حول أن الديمقراطية ليست بالصندوق فقط تحتاج لأن تترك للديمقراطيات المستقرة، لا تلك الديمقراطيات الناشئة والهشة ولا التي يتربص بها خصوم التغيير والاستبداد في أجنحة الدولة ودهاليزها.
المناقشات الدائرة حول الاستفادة من درس الانقلاب تطرح أمرين: أولهما أن الانقلاب كان حتميا، وهذا التصور غير صحيح، على الأقل لمدة سنتين تقريبا من عمر الثورة إلى أن وصلنا لأحداث الاتحادية، حينها بدت إمكانية نجاح القوى المضادة للثورة، ولم يتوقف أحد عن الاستمرار في عناده ومساره السياسي الحزبي، وظلت كرة النار تتدحرج إلى أن وصلنا للحظة 30-6-2013، وربما حتى في هذه اللحظة كان يمكن لجهة الحكم أن توقف عنادها بقبول دعوة كانت في غير محلها، لكنها أصبحت أمرا واقعا، ولو ذهبت السلطة بعد ذلك لمرشح محسوب على النظام المخلوع، فلن يقوم بنفس إجراءات القمع والاستبداد التي قام بها هذا القاطن في قصر الاتحادية الآن.
وثانيهما أن لحظة بداية الانقلاب عند ترشّح (الإخوان / الإسلاميين) للرئاسة، وهذا تصور مقبول عند قراءة الأحداث من منظور تاريخي بعدما جرى من ممارسة الحكم وعدم القدرة على موجهة الدولة بأجهزتها، لكن لحظة الاتحادية هي اللحظة الفارقة والمؤسِّسة تأسيسيا كاملا للانقلاب، فترشح الإخوان كان يمكن ألا يكون امتداده الطبيعي الانقلاب لو أديرت الأمور بصورة مغايرة، أما الاقتتال بين رفاق الميدان كان لحظة وفاة مبادئه.
في ظل هذا العبث الذي تقوم به قوى المعارضة بكل أطيافها بدأت تخرج دعوات للملمة الصف أهمها ما قاله د. يحيى قزاز في تصريحات لـ"
عربي21": "الهدف من مظاهرات 30 يونيو لم يكن إسقاط حكم الإخوان، إنما الدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة.. وتغيير المشهد الحالي بعودة القوى الوطنية والسياسية إلى ما بين يومي 28 يناير و12 فبراير 2011 قبل أن يتفرق الثوار والقوى السياسية، وتفتتهم الإيديولوجيات، والتحالفات، وتضعف شوكتهم.. ولا بد أن يدرك الإخوان أنهم مصريون وطنيون، وأن قاعدة الوطنية المصرية تسبق أسس جماعة الإخوان، فمن غير وطن لا كيان ولا وجود لأحد، ولا بد أن يكون التعاون بيننا وبين الإخوان على أسس المواطنة".
أهمية هذه التصريحات صدورها من أحد أشرس المعارضين للإخوان "فكريا وسياسيا" لكنها تصريحات تتجاوز تلك الإشكالات بناء على أرضية مشتركة تنتفي فيها الخلافات، وتلك الكلمات استخلصت أهم دروس السنوات الأربع الكئيبة.