قضايا وآراء

المأساة السورية وأزمة النظام الدولي

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
ربما يكون الدرس الأهم من المأساة السورية بعد ست سنوات من سفك الدم المتواصل وتدمير المدن وتهجير الملايين في أصقاع الأرض هو أن المشكلة أعقد من وجود نظام استبدادي جاثم على صدور شعبه ولا يتورع عن قتل مئات الألوف إن شعر يوما ما بأن حكمه تحت التهديد. 

المشكلة الأكبر تتعلق بالمنظومة الدولية التي سمحت لهذا النظام بالولوغ في الدماء وهو آمن من المحاسبة، بل وفرت الغطاء له ومارست الدول الكبرى النفاق إذ زعمت أنها حزينة على قتل الأبرياء بينما كانت قادرةً لو أنها أبدت الحزم ضد النظام منذ البداية أن تمنع هذه المآلات المأساوية.

يحاول الغرب أن يزج بروسيا إلى الواجهة ويحملها مسئولية بقاء نظام بشار الأسد ليعفي نفسه من مسئولية التقصير والتواطؤ، لكن الدور الروسي البشع والإجرامي لا يظهر معزولاً عن السياق الدولي، فروسيا ليست متناقضة مع المنظومة الدولية، وعلى أقل تقدير فإن الغرب وخاصةً أمريكا لا تشعر بتهديد جاد لمصالحها من المشاركة الروسية في قتل السوريين، وإذا كانت روسيا تمثل دور الدب في السياسة الدولية فإن أمريكا تمثل دور الثعلب، وتبيان الدورين أن روسيا تعتمد القوة الفجة في تحقيق أهدافها بينما ترى أمريكا ما يحدث في سوريا خادماً لمصالحها كونه يشغل أعداءها بأنفسهم ويدخل المنطقة في دوامة استنزاف تنهك قواهم وتؤخر أي نهضة ووحدة حقيقية وتعزز عناصر التوتر الطائفي والعرقي وتقيم حواجز التقسيم والتفرقة، لذلك ليس صعباً على أي راصد أن يلحظ أن الدور الأمريكي طوال سنوات الأزمة السورية كان دوراً رخواً يهدف إلى تأجيل الحلول وإطالة أمد الصراع وليس إلى الحسم والحل الجذري.

لن أضيف جديدا بالقول إن بقاء نظام بشار الأسد إلى اليوم لم يكن نتيجة قوته الذاتية، بل نتيجة الدعم الخارجي المباشر الذي تمثل في البداية بدعم إيران ثم تمثل بالتدخل الروسي المباشر، وما دام بقاء نظام بشار ثمرة الدعم المباشر من قوىً دولية فاعلة فهذا يقودنا إلى نتيجة أن جوهر المشكلة السورية هو الخلل الكامن في بنية النظام الدولي. هذا العامل من المركزية والخطورة بما لا يمكن تجاهله، إذ إن بقاء هذا الخلل يمنع توفر بيئة سليمة للنضال السلمي من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، فما دامت الشرعية في هذا العالم يفرضها من يملك قوةً عسكريةً واقتصاديةً أكبر وليس من يملك شرعية أخلاقية فإن مزيدا من المطالب الأخلاقية للشعوب ستجهض كما أجهضت مطالب الشعب السوري العادلة وستختلط الأوراق وسيفرض القوي كلمته بالقوة لا بالعدل.

بقاء الخلل الذي تنطوي عليه بنية النظام الدولي يعني أن هناك قابليةً لمزيد من المآسي المروعة على غرار مأساة الشعب السوري سيشهدها العالم في المستقبل، فالمثال السوري قد أعطى إشارةً قويةً للأنظمة بأن سبيل البقاء لا يتمثل في الشرعية الشعبية ولا في الانتصار لمبادئ العدل وحقوق الإنسان، بل يتمثل في نسج شبكة من العلاقات الاستراتيجية مع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، وقد كان الصدى المباشر للأزمة السورية في كل من مصر واليمن اللتين شهدتا انقلاباً على الإرادة الشعبية، وفي مصر تحديداً غير النظام استراتيجيته مقتفياً خطى النظام السوري فاتجه بكل ثقله وراء روسيا وفي المقابل صار أقل مبالاةً باستحقاقات العدالة الداخلية ظناً منه بأن روسيا هي الإله الجديد الذي سينصره في ساعة العسرة وأن الاعتماد على هذا الإله سيغنيه عن الالتزامات الحقوقية و الاستحقاقات الديمقراطية الداخلية.

الخلل الأهم الذي تنطوي عليه بنية النظام الدولي هو أن الشرعية تمنح للدول حسب نفوذها وليس وفقاً لحقوق الإنسان ومبادئ العدالة، فالقوي يملك أن يفعل ما يريد ثم يفرض إرادته على الجميع والضعيف ينتهك حقه ولا يستطيع الاعتراض، ويتجلى هذا الخلل بوضوح في ما يسمى حق النقض الفيتو، وما هو بحق، هذا الفيتو يعني أن الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وحدها التي تفرض إرادتها وإن كانت هذه الإرادة مخالفةً لإرادة دول العالم، الفيتو يقسم العالم رسمياً إلى مستكبرين ومستضعفين وإلى سادة وعبيد، فهو يقوم على وجود خمسة آلهة كبار وحدها التي تملك حق النقض لا معقب لحكمها ولا راد لمشيئتها، واللافت أن من أكثر الأطراف استفادةً من حق النقض إسرائيل ونظام بشار الأسد، مما يؤكد أن هذا الحق عبء ثقيل على العدالة الدولية وأنه صمم خصيصاً لقهر إرادة الشعوب ولفرض إرادة الأقوياء رغم أنوف الجميع.

في مقابل التاريخ الأسود لتدخلات مجلس الأمن الداعمة لانتهاكات حقوق الإنسان في العالم فإن قرارات الأمم المتحدة أكثر انحيازاً للشعوب وأقرب إلى العدالة، و غالبية قرارات الأمم المتحدة كانت منصفةً لفلسطين وآخرها تصويت اليونسكو لأحقية المسلمين وحدهم بالمسجد الأقصى. هذا الوضع طبيعي لأن الأمم المتحدة تقوم على التصويت العددي للدول بينما يقوم مجلس الأمن على الثقل السياسي للدول الكبرى، والتصويت العددي المتساوي بين جميع الأعضاء يحول دون تسييس حقوق الإنسان ويمثل ضمانةً بولادة قرارات أكثر إنصافاً.

الحل يكمن في دمقرطة النظام الدولي عبر تفعيل دور الأمم المتحدة وإعطائها صلاحيات تنفيذيةً حقيقيةً تتجاوز احتكار الدول الكبرى فتصبح الكلمة العليا للأمم المتحدة كونها تمثل كافة دول العالم وليس لدول كبرى متفردة، ويتم اتخاذ القرارات بالتصويت العددي للدول، وتملك هذه المؤسسة وحدها حق التدخل العسكري في أي بقعة تشهد انتهاكات لحقوق الإنسان، وبذلك يتحول التدخل العسكري إلى طابع حقوقي لا طابع سياسي، و يصبح دور القوة الدولية مثل دور الشرطة التي تعمل بآلية مهنية فتتدخل ضد أي جريمة فور تلقيها إنذاراً، مما سيحرر حقوق الإنسان من التسييس وازدواجية المعايير.  

أعلم أن المزاج العام متشائم، وأن كثيرين سيسارعون إلى القول إن الأمم المتحدة مؤسسة شكلية عاجزة يلجأ إليها الضعفاء ، لكن إن ابتعدنا قليلاً عن الواقع السياسي ونظرنا إلى المبادئ الحقوقية التي تحكم عمل الأمم المتحدة فإن هذه المبادئ تمثل إنجازاً إنسانياً ينبغي المراكمة عليه وليس هدمه، وكون الأمم المتحدة في هذه المرحلة التاريخية عاجزةً وضعيفةً فهذا يؤكد حجتي ولا ينفيها، لأن من يتعمد إضعافها هو الدول المهيمنة التي تعلم أن قوة الأمم المتحدة سيقوض امتيازاتها وتفردها. إن مجرد وجود مبادئ نظرية في مواثيق الأمم المتحدة تدعو إلى كرامة الناس وحقوقهم هو إنجاز بشري يستحق التمسك به، لأن الوعي بوجود المشكلة بداية الطريق نحو الحل، وفي مراحل تاريخية سابقة لم يكن هناك وعي بحقوق الإنسان ولو على المستوى النظري.   

سيقول آخرون إن هذه الأفكار مجرد أحلام طوباوية، وإنها مخالفة لسنن الله في بقاء التدافع بين البشر!

أولا ماذا ستستفيدون من إشاعة هذه الأجواء المتشائمة، ولماذا إصراركم العجيب على قتل كل دعوة إلى العدل والرشد بدعوى الواقعية؟ وهل يتقدم التاريخ الإنساني إلا بالأحلام المجاوزة لقيود الواقع؟ وهل الإنجازات الإنسانية التي نراها من حولنا في كل مكان سوى ثمرة إيمان الحالمين بها؟ لقد كان العالم إلى عهد قريب مؤسسا على نظام الرق وكان هذا النظام من التجذر والهيمنة بما يعجز الواقعيون عن تخيل تحرر البشرية من وثاقه، بل كان هناك بالتأكيد من يظن أن التفكير بإنهاء الرق مخالف للدين لأن القرآن يتحدث عن الرقيق وملك اليمين! ثم حدث بعد ذلك أن انتصرت الأحلام وهزمت الواقعية.

ثانيا يصح تفنيد الأفكار حين يكون هناك بديل أفضل، لكننا نتحدث عن طريق ذات اتجاه واحد. ليس أمام البشرية سوى أن تمضي قدماً في النضال من أجل تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، وما لم يتم إصلاح النظام الدولي سنظل بعيدين عن مواجهة أصل المشكلة. إن هذا الاختلال الحادث في المعادلة الدولية سينتج مزيداً من إخوان بشار الأسد، وبدل الاكتفاء بمقاومة الفراعين الصغار فإن المعركة الأكثر جذريةً هي توجيه الجهود والأفكار نحو الفرعون الأكبر المتمثل في النظام الدولي المتوحش الأنيق، وبذلك يتم قطع شريان الحياة عن الأنظمة الصغيرة.

لم أقل إن مهمة إصلاح النظام الدولي سهلة، فهي تتطلب عملاً شاقاً عبر الأجيال، لكنها معركة في الاتجاه الصحيح، ولا يوجد ما يدفعنا إلى اليأس والتشاؤم فإرادة الشعوب حين تمتزج بالوعي هي القوة الكبرى التي لا تعدلها قوة، والخطوة الأولى في خلق عالم أكثر عدلاً هي في تشكيل وعي أممي عالمي يستند إلى قواعد شعبية عريضة يؤمن بدمقرطة النظام الدولي ويستطيع أن يرى بشاعة واختلال النظام الراهن، أليس هذا الهدف أجدى من أن نحسد أمريكا وروسيا على امتلاكهم حق الفيتو ونحلم بأن نملك ذات يوم ذات الحق فنهيمن على العالم كما يهيمنون، ونخاطب السحابة بأن تمطر حيث شاءت لأننا سنجبي خراجها؟

يدعو القرآن إلى كلمة السواء بين العالمين، وأن يتوقف البشر بمن فيهم المسلمون عن العلو والاستكبار في الأرض: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ".
التعليقات (0)